في 4 أيلول (سبتمبر) سنة 1870، عندما أعلن العمال الباريسيون الجمهورية التي حيتها حالا فرنسا كلها بالإجماع، استولت عصابة من المحاميين الطامعين – كان تيير رجلها السياسي و تروشو قائدها العسكري – على بلدية المدينة. في ذلك الوقت كان هؤلاء الناس يتملكهم إيمان أعمى برسالة باريس في تمثيل فرنسا بأسرها في جميع فترات الأزمات التاريخية، بحيث أنهم رأوا أنه يكفيهم لتبرير لقب حكام فرنسا الذي اغتصبوه، أن يبرزوا وكالاتهم التي انقضى أجلها كنواب لباريس. وفي ندائنا الثاني حول الحرب الأخيرة، و بعد خمسة أيام مضت منذ أن رفعت الحركة هؤلاء الناس إلى أعلى، شرحنا لكم من هم هؤلاء. غير أن باريس المأخوذة على حين غرة، بينما قادة العمال الحقيقيون لا يزالون في سجون بونابرت، و البروسيون يزحفون على المدينة بسرعة، سمحت لهؤلاء الناس أن يأخذوا السلطة، ولكن بشرط لابد منه هو ألا يستخدموا هذه السلطة إلا لأغراض الدفاع الوطني. ولم يكن من الممكن الدفاع عن باريس إلا بتسليح عمالها و تنظيمهم في قوة عسكرية فعالة و تدريبهم على الفن العسكري في الحرب ذاتها. ولكن تسليح باريس كان معناه تسليح الثورة. و انتصار باريس على المعتدي البروسي كان يعني انتصار العامل الفرنسي على الرأسمالي الفرنسي و على طفيليي دولته. و حكومة الدفاع الوطني المضطرة للاختيار بين الواجب الوطني و المصالح الطبقية، لم تتردد لحظة واحدة – لقد تحولت إلى حكومة خيانة وطنية.
وكان أول ما فعلته أن أرسلت تيير في جولة يطوف بها بلاطات أوروبا يستجدي وساطتها كصدقة واعدا لقاء ذلك بمقايضة
الجمهورية بملك. وبعد أربعة أشهر من بدء حصار باريس رأت من المناسب الشروع في الحديث عن الاستسلام؛ وبحضور جول
فافر وغيره من زملائه خاطب تروشو رؤساء بلديات دوائر باريس المجتمعين بالكلمات التالية:
((السؤال الأول الذي
وجهه إلي زملائي مساء الرابع من أيلول (سبتمبر) ذاته كان التالي: هل تملك باريس أية إمكانيات للصمود بنجاح لحصار
الجيش البروسي. لم أتردد في الإجابة على هذا السؤال بالنفي. استشهد ببعض زملائي الحاضرين هنا؛ في استطاعتهم أن
يثبتوا لكم صحة كلامي؛ وكان رأيي دائما نفسه و هو الذي أبديته حينذاك. لقد قلت لهم ما أقوله الآن لكم: إن محاولة
الدفاع عن باريس ضد الجيش البروسي هي في الوضع الراهن مجرد جنون – ولقد أضفت – إنها جنون بطولي
بالطبع – ولكنها جنون، لا أكثر… إن الأحداث (التي وجهها هو بنفسه) قد أثبتت تنبؤاتي)).
هذا الخطاب الصغير الظريف الذي ألقاه تروشو نشره فيما بعد كوربون أحد رؤساء البلديات الحاضرين. وهكذا في مساء اليوم الذي أعلنت فيه الجمهورية، كان زملاء تروشو يعرفون أن ((خطته)) تنحصر في استسلام باريس. ولو أن الدفاع الوطني كان أكثر من ذريعة لسيطرة تيير و فافر و شركائهما سيطرة شخصية، لتخلى هؤلاء الذين ظهروا إلى الوجود فجأة في 4 أيلول (سبتمبر) عن الحكم في 5 منه و لأطلعوا سكان باريس على ((خطة)) تروشو و لدعوهم إلى الاستسلام فورا أو إلى أن يتدبروا مصيرهم بأنفسهم. ولكن هؤلاء الدجالين المتهتكين عقدوا العزم على مداواة جنون باريس البطولي بالتجويع و التقتيل، وقبل حلول ذلك الحين كانوا يخدعونها ببياناتهم المتبجحة. جاء في أحد هذه البيانات – إن تروشو ((حاكم باريس لن يقبل الاستسلام أبدا)). ((إن جول فافر وزير الخارجية لن يتنازل عن شبر واحد من الأرض ولا عن حجر واحد من حصوننا)). وفي رسالة إلى غامبيتا، يعترف جول فافر هذا نفسه بأن ما كانوا ((يدافعون)) ضده لم يكن الجنود البروسيين وإنما عمال باريس. وطوال مدة الحصار كان الأشقياء البونابرتيون الذين عهد إليهم تروشو الحذر بقيادة جيش باريس. يتبادلون في مراسلاتهم الخاصة النكات البذيئة عن هذا الدفاع المزعوم الذي كانوا يعرفون سره. (الدلائل ليست بعيدة؛ حسب المرء أن يراجع رسائل الفونس سيمون غيو، القائد الأعلى لمدفعية جيش باريس وحامل وسام الصليب الكبير لجوقة الشرف إلى سوزان،فريق المدفعية– وهي رسائل نشرتها الكومونة في(Journal Officiel) ((جورنال أوفيسييل)) (8). وقد كشف الدجالون القناع أخيرا في 28 كانون الثاني (يناير) سنة 1871. وظهرت حكومة الدفاع الوطني في قضية استسلام باريس ببطولة على غاية من الذلة و المهانة، ظهرت كحكومة لفرنسا مؤلفة من أسرى بيسمارك – وهو دور وضيع لدرجة أن لويس بونابرت نفسه لم يجرؤ على قبوله في سيدان. وحين فر الاستسلاميون إلى فرساي لا يلوون على شيء بعد حوادث 18 آذار (مارس)، خلفوا وراءهم في باريس وثائق تدل على خيانتهم، وثائق من أجل إتلافها، كما تقول الكومونة في البيان الذي أصدرته إلى الأقاليم، ((لا يتورع هؤلاء الناس عن تحويل باريس إلى كومة من الأنقاض يغرقها بحر من الدماء)). وكانت لدى الكثيرين من أبرز أعضاء حكومة الدفاع الوطني أسباب أخرى خاصة بهم تدفعهم إلى هذه الخاتمة.
بعد عقد اتفاقية الهدنة بفترة وجيزة أقدم ميليير -، وهو أحد نواب باريس في الجمعية الوطنية، وقد قتل فيما بعد رميا بالرصاص بأمر خاص من جولفافر -، بنشر سلسلة من الوثائق القانونية الأصلية تثبت أن جول فافر الذي كان يتخذ من زوجة آفاق سكير جزائري محظية له، قد توصل، لتلفيق سلسلة من أقبح التزويرات امتدت عدة سنوات على التوالي، إلى الاستيلاء باسم أطفاله غير الشرعيين، على ميراث كبير جعل منه رجلا ثريا، وتثبت أنه لم ينج من فضيحة التزوير، بعد الدعوى التي أقامها عليه الورثة الشرعيون، إلا بفضل الحماية الخاصة التي تمتع بها من جانب المحاكم البونابرتية. ولما كانت أية بلاغة عاجزة في وجه هذه الوثائق القانونية الدامغة، فقد رأى جول فافر من اللازم عقد لسانه، لأول مرة في حياته، وانتظار نشوب الحرب الأهلية لكي يشهر تشهيرا مسعورا بسكان باريس ناعتا إياهم بأنهم مجرمون فارون خارجون بوقاحة على العائلة والدين و النظام و الملكية. و في الوقت نفسه ن ما كاد هذا المزور للوثائق يتسلم زمام السلطة حتى تعطف و أطلق، بعيد 4 أيلول (سبتمبر)، سراح كل من بيك و تيفير، وكان كلاهما قد أدين بتهمة التزوير حتى في ظل الامبراطورية في القضية الشائنة المعروفة بقضية جريدة ((Etendard)) (اتندارد). و كان أحد هذين السيدين، تيفير، وقحا لدرجة أنه عاد في عهد الكومونة إلى باريس و لكن الكومونة أودعته السجن فورا. وبعد هذا صاح جول فافر أمام الملأ من على منبر الجمعية الوطنية أن الباريسيين قد أطلقوا سراح جميع المجرمين من الليمان!
إن أرنست بيكار – جو ميلر * حكومة الدفاع الوطني، الذي عين نفسه وزيرا لمالية الجمهورية بعد أن جاهد على غير طائل ليفوز بمنصب وزير داخلية الامبراطورية، – هو شقيق واحد يدعى ارتور بيكار – وهو شخص طرد من بورصة باريس لكونه نصابا. (انظر تقرير قيادة الشرطة في باريس المؤرخ في 13 تموز (يوليو) عام 1867) و أدين باعترافه هو نفسه بسرقة 300000 فرنك ارتكبها حين كان مديرا لأحد فروع الشركة التجارية العمومية، شارع باليستر رقم 5 (انظر تقرير قيادة الشرطة المؤرخ في 11 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1868). و أرتور بيكار هذا عينه أرنست بيكار محررا لصحيفته ((Electeur Libre)) (اليكتور ليبر). و ضللت الأكاذيب الرسمية التي كانت تنشرها هذه الجريدة الوزارية المضاربين البسطاء في البورصة، بينما كان اورتور بيكار يركض دون انقطاع من البورصة إلى الوزراء ومن الوزراء إلى البورصة و يحصل على الأرباح من كل هزيمة تمنى بها الجيوش الفرنسية. وقد وقعت جميع المراسلات الخاصة بأعمال هذين الأخوين الفاضلين في أيدي الكومونة.
وجول فيري الذي كان محاميا خاوي الوفاض قبل 4 أيلول (سبتمبر)، توصل إبان فترة الحصار بوصفه رئيسا لبلدية باريس، إلى جني ثروة على حساب مجاعة العاصمة و اليوم الذي يطلب منه فيه تقديم حساب عن كيفية تصريفه الأمور، سيكون يوم إدانته.
إن هؤلاء الناس لم يستطيعوا الحصول على * tickets – of – leave إلا على أطلال باريس؛ و كانوا عين الرجال الذين أرادهم بيسمارك. و تيير الذي كان حتى اليوم يرأس الحكومة سرا ظهر فجأة بعد عملية بسيطة في خلط أوراق اللعب على رأس هذه الحكومة ومعه حملة بطاقات الإجازة (ticket –of – leave men) وزراء فيها.
لقد أخذ تيير، هذا القزم الفظيع، لب البرجوازية الفرنسية أكثر من نصف قرن لأنه كان التعبير الفكري في أتم صوره عن فسادها الطبقي. و قبل أن يصبح من رجال الدولة كان قد أظهر مواهبه في الكذب بصفته مؤرخا. إن سجل نشاطه الاجتماعي هو سج مصائب فرنسا. كان قبل سنة 1830 مرتبطا بالجمهوريين ثم اندس في وظيفة الوزير في عهد لويس فيليب لخيانته حاميه لافيت. و استطاع استعطاف الملك بتحريض الغوغاء على رجال الدين، ذلك التحريض الذي أدى إلى نهب كنيسة سان جيرمين لوكسيروا، وقصر رئيس الأساقفة، و بالقيام بدور الوزير الجاسوس على الدوقة بيري و السجان المولد بالنسبة لها. وقد كانت مذبحة الجمهوريين في شارع ترانسنونين وما تلاها من القوانين الشائنة في أيلول (سبتمبر) ضد الصحافة و حق الاجتماعات و الجمعيات من تدبيره. و في آذار (مارس) 1840 ظهر على المسرح كرئيس للوزارة و أدهش فرنسا كلها بمشروعه لتحصين باريس. وقد رد، في مجلس النواب، على اتهامات الجمهوريين الذين اعتبروا هذا المشروع مؤامرة شريرة ضد حرية باريس كما يلي: ((كيف؟ أنكم تتصورون أن التحصينات قد تعرض في يوم من الأيام الحرية للخطر! إنكم قبل كل شيء تفترون، إذ تفترضوا أن أية حكومة، تجرؤ في يوم من الأيام على قصف باريس بغية الاحتفاظ بالسلطة في أيديها… إن هذه الحكومة تزداد استحالة بعد الانتصار مئة مرة عما قبله)). نعم، إن ما من حكومة تجرؤ على قصف باريس من الحصون سوى تلك الحكومة التي سبق أن سلمت هذه الحصون إلى البروسيين.
وعندما جرب الملك – القنبلة بأسه في باليرمو في شهر كانون الثاني (يناير) سنة 1848، ألقى تيير ثانية في مجلس النواب ولم يكن آنذاك وزيرا منذ وقت طويل، الخطاب التالي: ((أيها السادة المحترمون! إنكم تعلمون ماذا يحدث في باليرمو. انتم، انتم جميعا، ترتجفون من الهلع (بالمعنى البرلماني) لدى سماعكم إن مدينة كبيرة تعرضت للقصف طيلة 48 ساعة.ومن قصفها؟ هل هو عدو أجنبي يمارس حقوق الحرب؟ لا، أيها السادة المحترمون، لقد فعلت ذلك حكومتها ذاتها. ولماذا؟ لان هذه المدينة السيئة الطالع طالبت بحقوقها. فمن اجل المطالبة بحقوقها تعرضت لقصف المدفعية خلال 48 ساعة… إني أتوجه إلى الرأي العام في أوروبا. و رأيي، إن وصم هذه الأعمال بكلمات (حقا كلمات) السخط من على أعظم منبر في أوروبا، يكون خدمة تؤدى للبشرية. عندما عزم الوصي اسبارتيرو الذي كان قد أدى خدمات لوطنه (وهذا ما لم يفعله تيير أبدا) على قصف مدينة برشلونة حتى يقمع الانتفاضة التي شبت فيها، ارتفعت إذ ذاك صيحة سخط عامة من جميع أرجاء الدنيا)).
وبعد ثمانية عشرة شهرا كان تيير في عداد اعنف المدافعين عن قصف روما بمدفعية الجيش الفرنسي (9). و يبدو أن خطا الملك – القنبلة كان ينحصر في الواقع في انه قصر قصفه للمدينة على 48 ساعة فقط. و قبل ثورة شباط (فبراير) بعدة أيام و كان تيير قد استبد به الغيظ لان غيزو أقصاه طويلا عن الحكم و الربح، و شم في الجو اقتراب عاصفة شعبية، صرح في مجلس النواب باسلوبه الرنان الذي سمي بسببه * Mirabeau-mouche: ((أنا من حزب الثورة ليس في فرنسا فحسب بل في أوروبا بأسرها. وإنني لأرجو أن تبقى حكومة الثورة في أيدي رجال معتدلين… ولكن لو انتقلت تلك الحكومة إلى أيدي راديكاليين، فلن أتخلى، رغم هذا، عن قضيتي. سأكون دائما من حزب الثورة)). و انفجرت ثورة شباط (فبراير). و بدلا من أن تذهب الثورة بوزارة غيزو لتأتي بوزارة تيير عوضا عنها، كما كان يحلم هذا الرجل الحقير، استعاضت عن لويس فيليب بالجمهورية. وفي اليوم الأول من الانتصار الشعبي اختبأ تيير بعناية ناسيا أن احتقار العمال له كان يحجب عنه كراهيتهم. وهذا البطل الجريء الذائع الصيت تحاشى الظهور على المسرح الاجتماعي إلى أن طهرت مذبحة حزيران (يونيو)* الأماكن لأناس على شاكلته. فأصبح حينذاك الزعيم الفكري لـ((حزب النظام)) و جمهوريته البرلمانية – تلك الفترة التي لا اسم لها بين ملكيتين و التي كانت فيها جميع كتل الطبقة الحاكمة المتنافسة تتآمر لسحق الشعب و يدس فيها الدسائس بعضها على البعض الآخر ليعيد كل منها إلى الحكم الملكية التي يريدها. و حينذاك، وكما يفعل الآن، أدان تيير الجمهوريين بوصفهم العائق الوحيد أمام إقامة الجمهورية على أسس وطيدة؛ و حينذاك، و كما يفعل الآن، قال تيير للجمهورية بمثل ما قال الجلاد لدون – كارلوس: ((إني سأقتلك لخيرك أنت)). و عليه الآن، كما فعل حينذاك، أن يهتف في اليوم الذي يلي انتصاره: L Empireest fait – إن الامبراطورية قد انجزت. و نسي تيير خطاباته المنافقة التي كان يرددها حول الحريات الضرورية، و عداوته الشخصية للويس بونابرت الذي دجل عليه و أطاح بالبرلمانية (و خارج جو البرلمانية الاصطناعي يتحول هذا الرجل الصغير إلى لا شيء و هذا ما يعرفه جيدا)؛ و لقد كانت له يد في جميع مخازي الامبراطورية الثانية – من احتلال الجنود الفرنسيين لروما إلى الحرب مع بروسيا؛ وقد حرص على هذه الحرب بحملاته المسعورة على وحدة ألمانيا، التي لم ير فيها قناعا للاستبداد البروسي بل خرقا لحق فرنسا الوراثي ببقاء ألمانيا مجزاة. و كان هذا القزم يحب أن يلوح بسيف نابليون الأول في وجه أوروبا. ففي مؤلفاته التاريخية لم يفعل غير أن مسح أحذية نابليون. إما في الواقع فكانت سياسته الخارجية تؤدي دائما إلى إذلال فرنسا غاية الإذلال – ابتداء من اتفاقية لندن عام 1840 إلى استسلام باريس عام 1871 و الحرب الأهلية الراهنة التي حرش فيها أسرى سيدان و ميتز على باريس بإرادة بيسمارك السامية. و رغم مواهبه المرنة و تقلب مساعيه ظل طيلة حياته روتينيا في غاية التحجر. و من نافل الكلام تماما إن أعمق التيارات التي تجري في المجتمع الحديث ظلت بالنسبة له لغزا لا يمكن إدراكه؛ و دماغه الذي انصرفت جميع قواه إلى اللسان، لم يستطع أن يدرك حتى أوضح التغيرات التي تحدث على سطح المجتمع. فهو، مثلا، لم يكل عن التنديد بكل انحراف عن نظام الحماية الفرنسي البالي باعتبار هذا الانحراف تدنيسا للمقدسات. و عندما كان وزيرا عند لويس فيليب، كان يسخر من السكك الحديدية ناعتا إياها بأنها وهم و ضلال، و عندما كان في صفوف المعارضة في عهد لويس بونابرت، وصم كل محاولة لإصلاح النظام الفرنسي العسكري المتعفن بأنها خرق للقدسيات. و إبان اشتغاله الطويل بالنشاط السياسي لم يتخذ مطلقا أي تدبير ذا فائدة عملية إلى هذا الحد أو ذاك و إن اصغر التدابير. كان تيير وفيا لشيء واحد فقط هو عطشه الذي لا يروى إلى الثروة و كرهه للناس الذين يخلقون هذه الثروة. كان فقيرا كأيوب حين دخل الوزراء للمرة الأولى في عهد لويس فيليب و لكنه خرج منها وهو من أصحاب الملايين. و أثناء رئاسته الأخيرة للوزراء في عهد الملك المذكور (ابتداء من أول آذار (مارس) سنة 1840) اتهم علنا في مجلس النواب باختلاس أموال الخزينة. و ردا على هذه التهمة اكتفى بذرف الدموع – وهو رد رخيص، تحجج به بسهولة جول فافر وكل تمساح آخر. وفي بوردو , عام 1871، كان أول إجراء اتخذه تيير لإنقاذ فرنسا من الإفلاس المحدق بها هو تخصيص ثلاثة ملايين لنفسه مرتبا سنويا؛ و كانت تلك الكلمة الأولى و الأخيرة في تلك ((الجمهورية المقتصدة)) التي عرض مثلها الأعلى في بيان إلى ناخبيه الباريسيين سنة 1869. و في الآونة الأخيرة بيلي احد زملائه السابقين في مجلس النواب سنة 1830، وهو نفسه من الرأسماليين ولكنه مع ذلك عضو مخلص من أعضاء الكومونة، أقدم على توجيه الكلمات التالية إلى تيير في احد منشوراته العلنية: ((إن استعباد العمل من قبل الرأسمال كان دائما حجر الزاوية لسياستك. ومنذ أن استقرت في بلدية باريس جمهورية العمل، وأنت لا تفتا تصرخ في إذن فرنسا: ها هم المجرمون!)) أستاذ في أعمال النصب الحقيرة بحق الدولة، فنان في الحنث و الخيانة، ابن حرفة في الدسائس المبتذلة و الحيل الدنيئة و المكر الشائن لنضال الأحزاب البرلماني، لا يتورع عن إشعال الثورة عندما يكون خارج الوظيفة، وعن إغراقها في الدماء عندما يكون متوليا زمام الحكم؛ مملوء بالأوهام الطبقية بدلا من الأفكار، و بالزهو بدلا من القلب، حياته الخاصة شائنة بقدر ما هي حياته الاجتماعية كريهة، و هو حتى في الوقت الحاضر بدور سو للإفرنسي، ولا يستطيع امتناعا عن إبراز قبح أفعاله بغطرسته المضحكة.
إن اتفاقية استسلام باريس بتسليمها لبروسيا لا باريس وحدها بل فرنسا برمتها، قد اختتمت سلسلة طويلة من دسائس الخيانة مع العدو، و هي الدسائس التي بدأها مغتصبو الرابع من أيلول (سبتمبر)، كما قال تروشو نفسه، يوم اغتصابهم السلطة. ومن ناحية أخرى دشن هذا الاستسلام الحرب الأهلية التي شنوها بمساعدة بروسيا ضد الجمهورية وضد باريس. وقد نصبت المصيدة في شروط الاستسلام ذاتها. في ذلك الوقت كان ما يزيد عن ثلث أراضي البلاد في أيدي العدو؛ و كانت العاصمة معزولة عن باقي البلاد وكانت طرق المواصلات مختلة. في هذه الظروف كان انتخاب أشخاص يستطيعون أن يمثلوا فرنسا تمثيلا حقيقيا أمرا مستحيلا دون تحضير مناسب. و لهذا السبب بالضبط عين نص الاستسلام مدة أسبوع لانتخاب الجمعية الوطنية، حتى أن أنباء الانتخابات المزمع إجراؤها لم تصل إلى بعض أنحاء فرنسا إلا عشية الانتخابات ذاتها. ثم، إن هذه الجمعية كان سيجري انتخابها، بمقتضى بند خاص من اتفاقية الاستسلام، لغرض واحد فقط هو البت في أمر السلم والحرب. وعقد معاهدة الصلح عند الاقتضاء. وكان لابد للسكان أن يشعروا بأن شروط الهدنة جعلت مواصلة الحرب أمرا مستحيلا و بأن أسوأ رجال فرنسا كانوا أنسبهم من أجل عقد الصلح الذي فرضه بيسمارك. بيد أن تيير لم يكتف بهذه الاحتياطات، بل قام، قبل أن يبلغ باريس سر الهدنة، بجولة انتخابية في أرجاء البلاد حتى يعيد إلى الحياة جثة حزب الليجيتيميين؛ و كان على هذا الحزب أن يأخذ مع الأورليانيين (10) مكان البونابرتيين الذين كانوا في ذلك الحين غير مقبولين للبلاد على الإطلاق لم يكن يخشى الليجيتيميين. وبما أنه كان من المستحيل أن يشكل هؤلاء حكومة لفرنسا الحديثة، فقد كانوا لهذا السبب لا وزن لهم كمنافسين؛ و كل نشاط هذا الحزب، كما قال تيير نفسه (في مجلس النواب في 5 كانون الثاني (يناير) سنة 1833) ((كان يستند دائما إلى دعائم ثلاث: الغزو الأجنبي و الحرب الأهلية و الفوضى))؛ ولذلك كان هذا الحزب أصح أداة في يد الثورة المعاكسة. غير أن الليجيتيميين آمنوا عن جد باستعادة ملكهم الذي دام ألف سنة. وفي الواقع، قذفت فرنسا ثانية تحت أقدام الأعداء الأجانب، و أسقطت الامبراطورية من جديد، ووقع بونابرت في الأسر مرة أخرى و بعث الليجيتيميون أحياء. إن عجلة التاريخ دارت، كما يبدو، إلى الوراء لتصل إلى ((المجلس الذي لا مثيل له)) لسنة 1816. كان الليجيتيميون يمثلهم في الجمعيات الوطنية في عهد الجمهورية من 1848 إلى 1851 رجال متعلمون و مجربون في النضال البرلماني؛ أما الآن فقد ظهرت في المقام الأول شخصيات عادية من حزبهم – جميع بورسونياكيي * فرنسا.
وحالما انعقدت في بوردو جمعية (النواب الملاكين العقاريين)) * هذه، لم يسمح لهم تيير حتى بالمناقشات البرلمانية بل صرح لهم ببساطة بأن عليهم أن يوافقوا فورا على شروط الصلح التمهيدية باعتبار ذلك الشرط الوحيد الذي تسمح بروسيا بمقتضاه بدء الحرب ضد الجمهورية وضد باريس – حصنها. و الواقع أن الثورة المعاكسة لم يكن لديها وقت للتفكير طويلا. فالإمبراطورية الثانية كانت قد زادت الدين الوطني مرتين، وكانت جميع المدن الكبيرة ترزح تحت الديون البلدية الثقيلة. و الحرب ضخمت الديون لأقصى حد و استنفذت موارد الأمة على نحو مخيف. و فضلا عن ذلك كان شايلوك * البروسي يقف على أرض فرنسا و في يده سندات لإعالة نصف مليون من جنوده، وهو يطلب دفع غرامة حربية تبلغ خمس مليارات و فائدة قدرها 5 بالمئة جزاء على ما لا يدفع في الموعد المعين. و من كان يجب عليه أن يدفع كل ذلك؟ كان قلب الجمهورية بالعنف هو السبيل الوحيد الذي استطاع متملكو الثروة أن ينقلوا بواسطته أعباء الحرب التي شنوها بأنفسهم، على عاتق منتجي هذه الثروة. و هكذا، فإن دمار فرنسا الذي لم يرى له مثيل من قبل، حفز أولئك الوطنيين – ممثلي ملكية الأرض و الرأسمال – تحت بصر المغتصب الأجنبي و رعايته السامية، على أن يكللوا الحرب الخارجية بحرب أهلية، بعصيان مالكي العبيد.
بيد أنه كانت تقف في طريق هذه المؤامرة عقبة واحدة كأداء هي باريس. إن نزع سلاح باريس كان أول شروط النجاح. و
لذلك طلب تيير من باريس أن تسلم سلاحها. فقد تم تدبير كل شيء لكي تفقد باريس صبرها: أطلق مجلس الملاكين
العقاريين صيحات مسعورة معادية للجمهورية؛ و نكت تيير نفسه بصورة مبهمة حول حق الجمهورية في الوجود؛ و كانت
باريس عرضة للتهديد بقطع رأسها و بحرمانها من أن تظل عاصمة للبلاد (decapiter et decapitaliser)؛ و عين أورليان
سفراء؛ و أصدر دوفور قوانينه بشأن سندات الدين و بدلات الإيجار المستحقة و كانت قوانين تهدد بنسف تجارة باريس و
صناعتها من الأساس – و بإلحاح من بويه –كيرتيه، فرضت ضريبة السنتيمين على كل نسخة في أية مطبوعة
كانت؛ وحكم على بلانكي و فلورانس بالموت، و عطلت الصحف الجمهورية؛ و نقلت الجمعية الوطنية إلى فرساي؛ و جددت
حالة الحصار التي أعلنها باليكاو و رفعت في 4 أيلول (سبتمبر)؛ وعين فينوا، بطل 2 كانون الأول (ديسمبر)، حاكما
على باريس، و فالانتين، الدركي البونابرتي، مديرا للشرطة، و أوريل دي بالادين، الجنرال اليسوعي، قائدا عاما لحرس
باريس الوطني.
و الآن علينا أن نوجه سؤالا إلى المسيو تيير و أعضاء حكومة الدفاع الوطني العاملين تحت أمرته.
من المعروف أن تيير عقد قرضا قيمته ملياران بوساطة بويه – كيرتيه وزير ماليته، وكان من الواجب تسديد هذا
القرض فورا. و الآن هل صحيح أم لا:
1) إن الأمر دبر على نحو أوصل، ((مقابل الوساطة))، عدة مئات الملايين إلى
جيب كل مكن تيير و جول فافر و أرنست بيكار و بويه – كيرتيه و جول سيمون؟
2) إنهم تعهدوا بالتسديد بعد ((تهدئة)) باريس فقط؟ وعلى أية حال كان هناك شيء يجعلهم مستعجلين جدا في البت بهذه القضية لأن تيير و جول فافر ألحا، دون أية خجل، و باسم أكثرية الأعضاء في جمعية بوردو، على احتلال الجنود البروسيين الفوري لباريس. بيد أن هذه الخطوة لم تكن من خطوات سياسة بيسمارك، كما قال هازئا و جهارا لدى عودته إلى ألمانيا، أمام التافهين الضيقي الأفق المندهشين في فرانكفورت.
كانت باريس المسلحة هي العائق الخطير الوحيد في طريق مؤامرة الثورة المعاكسة. و كان لابد لذلك من تجريد باريس من السلاح. و بصدد هذه المسألة، أبدى مجلس بوردو رأيه بكل صراحة. وحتى لو لم تكن جلبة نواب ((مجلس الملاكين العقاريين)) المسعورة غير مسموعة بهذا القدر، فإن قيام تيير بوضع باريس تحت أمر الثالوث: فينوا القاتل الديسمبري، و فالانتين الدركي البونابرتي، و أوريل دي بالادين الجنرال اليسوعي، لم يبق موضعا لأدنى شك. و المتآمرون، الذين لم يخفوا المعنى الحقيقي لتجريد باريس من السلاح، طالبوها بإلقاء السلاح متخذين لذلك ذريعة كانت كذبة في غاية الفظاظة و الوقاحة. قال تيير أن مدفعية الحرس الوطني في باريس هي ملك الدولة و لذلك ينبغي أن تعاد إلى الدولة. أما الوقائع فهي كما يلي: كانت باريس ساهرة منذ اليوم الأول لاتفاقية الاستسلام التي سلم أسرى بيسمارك وفق شروطها فرنسا له، و لكنهم اشترطوا أن يحتفظوا لأنفسهم بحرس خاص كبير العدد لقصد صريح هو إخضاع باريس. أعاد الحرس الوطني تنظيم نفسه و أناط أمر القيادة العليا بلجنة مركزية انتخبها أفراد الحرس الوطني جميعا، ما عدا بعض بقايا التشكيلات البونابرتية القديمة. و عشية دخول البروسيين إلى باريس، اتخذت اللجنة المركزية الإجراءات لنقل المدافع و المدافع الرشاشة التي تركها المستسلمون عن خيانة في الأحياء نفسها التي كان البروسيون سيحتلونها أو على مقربة منها، إلى مونمارتر و بيلفيل و لافيليت. و كانت تلك المدفعية قد أنشئت بالمبالغ التي جمعها الحرس الوطني ذاته. و اعترف بها رسميا ملكا خاصا للحرس الوطني في اتفاقية الاستسلام في 28 كانون الثاني (يناير)، و بهذه الصفة لم تدرج في عداد أسلحة الدولة الواجب تسليمها إلى المنتصر. لم يكن لدى تيير أدنى ذريعة لبدء الحرب ضد باريس، و لذلك اضطر إلى اللجوء إلى تلك الكذبة الفاضحة ونهي أن مدفعية الحرس الوطني هي ملك للدولة! و الظاهر أن الاستيلاء على المدفعية كان مجرد إشارة إلى تجريد باريس تجريدا عاما من السلاح، وبالتالي إلى تجريد ثورة 4 أيلول (سبتمبر) من السلاح أيضا. بيد أن هذه الثورة قد أصبحت الوضع القانوني لفرنسا. فالجمهورية، نتيجة هذه الثورة اعترف بها المنتصر في نص اتفاقية الاستسلام. و بعد الاستسلام اعترفت بها جميع الدول الأجنبية، و باسمها دعيت الجمعية الوطنية إلى الانعقاد. إن ثورة عمال باريس في 4 أيلول (سبتمبر) كانت الأساس القانوني الوحيد للجمعية الوطنية في بوردو و لسلطتها التنفيذية. و لولا ثورة 4 أيلول (سبتمبر)، لترتب على هذه الجمعية الوطنية أن تتنازل فورا عن مكانها للهيئة التشريعية التي تم انتخابها عام 1869 بالاقتراع الشامل في ظل الحكم الفرنسي، لا البروسي و التي حلتها الثورة بالعنف فيما بعد. و لكان على تيير و زمرته أن يستسلموا من أجل الحصول على صكوك أمان موقعة من لويس بونابرت تنقذهم من رحلة إلى كايينا *. إن الجمعية الوطنية و التفويض الذي تحمله لعقد الصلح مع بروسيا لم تكن إلا حادثا من حوادث الثورة، أما تجسيدها الحقيقي فكان، على كل حال، باريس المسلحة، باريس التي حققت هذه الثورة و التي تحملت في سبيلها حصارا دام خمسة أشهر مع ما رافقه من فظائع المجاعة، باريس التي أتاحت بمقاومتها الطويلة، رغم مشروع تروشو، أن تقوم الأقاليم بحرب دفاعية عنيدة. و كان على باريس هذه الآن إما أن تنزع سلاحها نزولا على أمر مهين من مالكي العبيد المتمردين في بوردو و تقر أن ثورة 4 أيلول (سبتمبر) لم تعن شيئا سوى نقل بسيط للسلطة من لويس بونابرت إلى منافسيه الملكيين، إما أن تناضل بنكران الذات لأجل قضية فرنسا التي لا يمكن إنقاذها من الانحطاط التام وبعثها إلى حياة جديدة إلا عن طريق الثورة، إلا بتحطيم ذلك النظام السياسي و الاجتماعي الذي أدى إلى الامبراطورية الثانية، و بلغ تحت رعايتها، منتهى العفونة. إن باريس التي أضنتها المجاعة خلال خمسة أشهر لم تتردد لحظة واحدة. لقد كانت مليئة بشجاعة بطولية، واستعدت لتحمل جميع أعباء النضال ضد المتآمرين الفرنسيين، رغم المدافع البروسية التي كانت تهددها من قلاعها هي. غير أن اللجنة المركزية، بدافع من مقتها للحرب الأهلية التي حاولوا فرضها على باريس، – ظلت تلتزم خطة دفاعية بحتة، ضاربة عرض الحائط باستفزازات الجمعية الوطنية و تدخل السلطة التنفيذية غير المرجو في شؤونها و حشد الجيوش على نحو خطر في باريس و حولها.
وهاهو تيير قد بدأ الحرب نفسه: إنه أرسل فينوا على رأس قوة من الشرطة و عدة أفواج من أفواج الميدان في حملة
لصوصية ليلية إلى مونمارتر ليستولوا هناك على مدفعية الحرس الوطني بصورة مباغتة. و يعرف الجميع أن هذه المحاولة
أحبطت بفضل رد الحرس الوطني ردا حاسما و بفضل تآخي الجنود مع الشعب. كان أوريل دي بالادين قد طبع مسبقا بيان
النصر كما أعد تيير الإعلانات التي تخبر عن الإجراءات التي اتخذها لقيام بقلب سلطة الدولة. أما الآن كان لابد من
الاستعاضة عن هذه الإعلانات ببيان يعلن عزم تيير الكريم على أن يمنح الحرس الوطني سلاحه و يعرب عن أمله في أن
هذا السلاح سيستخدم للدفاع عن الحكومة ضد المتمردين. ومن أصل جنود الحرس الوطني الـ 300000 استجاب 300 فقط لنداء
تيير الصغير بالانضمام إليه قصد الدفاع عنه ضد أنفسهم. إن ثورة العمال المجيدة في 18 آذار (مارس) حكمت باريس لا
ينازعها منازع. وكانت اللجنة المركزية هي حكومتها المؤقتة. وبدا أن أوروبا قد ساورها الشك، لحظة من اللحظات، في
حقيقة وقوع الحوادث السياسية و الحربية المدهشة التي جرت أمام عيونها: أليس ذلك حلما من أحلام الماضي
السحيق.
منذ 18 آذار (مارس) و حتى دخول جنود فرساي إلى باريس ظلت ثورة البروليتاريا خالية من أعمال العنف
التي تتسم بها الثورات ولا سيما الثورات المعاكسة التي تقوم بها ((الطبقات العليا))، لدرجة أن أعداءها لم
يستطيعوا أن يجدوا أية ذريعة لاستيائهم سوى إعدام الجنرالين: ليكونت و كليمان توما، و الاصطدام في ميدان فندوم.
كان أحد الضباط البونابرتيين الذين اشتركوا في الحملة الليلية ضد مونمارتر، وهو الجنرال ليكونت، قد أصدر أوامره
أربع مرات إلى فوج الميدان الحادي و الثمانين بإطلاق النار على جمع من الناس العزل في ميدان بيغال؛ و عندما رفض
الجنود تنفيذ أوامره، أهانهم إهانة بذيئة. و بدلا من تسديد السلاح إلى النساء و الأطفال العزل، أعدمه جنوده
بالرصاص. إن العادات الراسخة التي تأصلت في الجنود في مدرسة أعداء الطبقة العاملة، لا يمكنها، طبعا، أن تزول دون
أن تترك أي أثر في ساعة انتقالهم إلى جانب العمال. كذلك أعدم الجنود أنفسهم بالرصاص الجنرال كليمان توما.
((الجنرال)) كليمان توما، نقيب عسكري سابق ساخط على وضعه في المجتمع، وقد صار في السنوات الأخيرة من عهد ملكية
لويس فيليب يخدم في مكتب تحرير الصحيفة الجمهورية ((National)) (ناسيونال) (11)، و يؤدي دورا مزدوجا: دور المحرر المسؤول الاسمي ودور المبارز الدائم لهذه
الصحيفة الشكسة. و بعد ثورة شباط (فبراير) عمد رجال (National) (ناسيونال)، و قد تسلموا السلطة، إلى تحويل هذا
النقيب السابق جنرالا. كان ذلك عشية مذبحة حزيران (يونيو) التي كان هو، مثل جول فافر، أحد مدبريها الشريرين و
التي لعب فيها دور الجلاد الأشد قباحة.ثم اختفى بعد ذلك، هو ولقبه الجنرالي، ردحا طويلا من الزمن حتى عاد إلى
الظهور من جديد في الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1870. قبل ذلك اليوم كانت حكومة الدفاع، وقد أسرت في
بناية البلدية، قد قطعت عهدا موثقا على نفسها، أمام بلانكي و فلورانس و غيرهما من ممثلي العمال بأن تتخلى عن
سلطتها المغتصبة و تضعها بين يدي كومونة تقوم باريس بانتخابها انتخابا حرا. و بلا من أن تفي بعهدها أرسلت إلى
باريس بريتانيي الجنرال تروشو فحلوا الآن محل كورسيكيي بونابرت. بيد أن الجنرال تاميزيه وحده لم يشأ أن يلطخ
نفسه بمثل هذا النكوث بالعهد ورفض أن يتولى منصب القائد العام للحرس الوطني. و أصبح كليمان توما، الذي حل محله،
جنرالا للمرة الثانية. و طوال الفترة التي تولى فيها القيادة، شن الحرب لا على البروسيين بل على الحرس الوطني في
باريس. فقد قاوم بكل قواه تسليحه تسليحا عاما وحرش كتائب البرجوازيين على كتائب العمال و أبعد الضباط الذين لا
يؤيدون ((مشروع)) تروشو و سرح الكتائب البروليتارية متهما إياها بتهمة الجبن، و هي الكتائب البروليتارية نفسها
التي تثير الآن ببطولتها دهشة ألد أعدائها. و تباهى كليمان توما شديد التباهي بأنه تسنى له من جديد أن يثبت
عداوته الشخصية حيال بروليتاريا باريس، تلك العداوة التي تجلت بقوة خارقة في مذبحة حزيران (يونيو) سنة 1848. و
قبل 18 آذار مارس بأيام قليلة، عرض على ليفلو وزير الحربية، خطة من وضعه ((للإجهاز على الصفوة من أوغاد باريس))
بصورة تامة نهائية. و بعد هزيمة فينوا، لم يتماسك عن الظهور على المسرح بصفة جاسوس هاو. إن اللجنة المركزية و
عمال باريس كانوا مسؤولين عن مصرع كليمان توما و لكيونت بقدر ما كانت أميرة ويلز مسؤولة عن هلاك الناس الذين
ديسوا حتى الموت يوم دخولها إلى لندن.
أما مذبحة المواطنين العزل في ميدان فندوم فهي خرافة، ليس بالصدفة أن لازم عنها تيير و نواب جمعية الملاكين العقاريين الصمت المطبق، و أوكلوا أمر إذاعتها إلى خدم الصحافة الأوروبية. لقد ارتجف ((رجال النظام))، رجعيو باريس، فرقا من نبأ النصر الذي أحرز في 18 آذار (مارس). فقد كان بالنسبة لهم دنو التنكيل الشعبي. و انتصبت أمام أنظارهم أشباح الضحايا التي اغتالتها أيديهم من أيام حزيران (يونيو) سنة 1848 حتى 22 كانون الثاني (يناير) سنة 1871. غير أن فرقهم كان عقابهم الوحيد. فرجال الشرطة بدلا من أن ينزع سلاحهم و يقبض عليهم، كما كان ينبغي أن يفعل، فتحت لهم أبواب باريس على مصاريعها لينسحبوا منها بسلامة إلى فرساي. ولم يترك ((رجال النظام)) و شأنهم فحسب، بل أتيحت لهم إمكانية الإتحاد و الإستيلاء على الكثير من المواقع القوية في قلب باريس بالذات. هذا التساهل الذي أبدته اللجنة المركزية و هذه السماحة التي أظهرها العمال المسلحون، وهما صفتان غريبتان تماما عن طباع حزب النظام، اعتبرهما هذا الأخير من دواعي إدراك العمال لضعفهم. ولهذا السبب نشأت لدى حزب النظام خطة حمقاء – محاولة التوصل إلى ما عجز فينوا عن التوصل إليه بمدافعه و المدافع الرشاشة، و ذلك تحت قناع مظاهرة غير مسلحة، كما زعموا. ففي 22 آذار (مارس) ظهر جمع صاخب من ((السادة المتأنقين)) من أغنى أحياء المدينة، و في صفوفه الغنادرة على أنواعهم وعلى رأسهم أرباب الامبراطورية المعروفون جيدا أمثال هككرين و كويتلوغون و هنري دي بين. وتحت ستار الإدعاء الجبان باعتزام القيام بمظاهرة سلمية، سار هؤلاء الأوباش، الذين كانوا مسلحين سرا بأسلحة القتلة المأجورين، و شرعوا يهينون دوريات الحرس الوطني و خفرائه ممن صادفوهم أثناء تقدمهم و يجردونهم من السلاح. ولدى نزولهم من شارع دي لابيه وهم يصرخون: ((لتسقط اللجنة المركزية! ليسقط القتلة! عاشت الجمعية الوطنية!))، حاولوا أن يخترقوا خط المخافر وأن يستولوا بصورة مباغتة على مقر قيادة الحرس الوطني في ميدان فندوم. و جوابا على طلقات مسدساتهم صدرت إليهم الإنذارات المعتادة بالتفرق، وعندما ثبت عدم جدواها، أصدر جنرال الحرس الوطني الأمر بإطلاق النار. وما أن انطلق وابل واحد من النيران حتى تبعثر هذا الجمع من المأفونين وولوا الأدبار لا يلوون على شيء وهم الذين تصوروا أن يكون لمجرد ظهور ((المقامات الموقرة)) من الأثر على ثورة باريس مثلما كان لأبواق يسوع على أسوار أريحا. وقد قتل ((المتظاهرون)) اثنين من جنود الحرس الوطني و أصابوا تسعة منهم بجراح بليغة (و بينهم أحد أعضاء اللجنة المركزية)، وكان المكان حيث قام حزب النظام بهذه المأثرة مغطى كله بالمسدسات و الخناجر و العصي ذات النصال وغي ذلك من المضبوطات التي تدل على الطابع ((غير المسلح)) لمظاهرتهم ((السلمية). وعندما قام الحرس الوطني في 13 حزيران (يونيو) سنة 1849 بمظاهرة سلمية حقا، احتجاجا على الهجوم اللصوصي الذي شنه الجنود الفرنسيون على روما، نادت الجمعية الوطنية و تيير بوجه خاص، بشانغارنيه الذي كان جنرالا لحزب النظام آنئذ، منقذا للوطن لأنه دفع جنوده إلى الانقضاض من جميع الجهات، على الجمهور غير المسلح، يرمونه بالرصاص و يضربونه بالسيوف و يطأونه بحوافر خيولهم. وحينذاك فرضت على باريس حالة الحصار. و استعجل دوفور سن قوانين جائرة جديدة في الجمعية الوطنية؛ وبدأت سلسلة جديدة من حملات الاعتقال و النفي، بدأ عهد جديد من الإرهاب. ولكن ((الطبقات الدنيا)) تدبر الأمور في مثل هذه الحالات على نحو مختلف. لقد تجاهلت اللجنة المركزية لسنة 1871 ببساطة أبطال ((المظاهرة السلمية)) حتى أنهم استطاعوا، بعد يومين اثنين، أن ينظموا، تحت أمرة الأميرال سيسي، مظاهرة مسلحة انتهت بالفرار المذعور الشهير إلى فرساي. إن اللجنة المركزية قد ارتكبت خطأ مشؤوما بما أبدته من عناد في عدم رغبتها في مواصلة الحرب الأهلية التي بدأها تيير بالحملة الليلية ضد مونمارتر. كان يجب الزحف فورا على فرساي التي لم تكن تملك إذ ذاك وسائل للدفاع – و القضاء نهائيا على مؤامرات تيير ومجلسه المؤلف من الملاكين العقاريين. و بدلا من ذلك، سمح لحزب النظام مرة أخرى أن يختبر قوته في 26 آذار (مارس) يوم انتخاب الكومونة. ففي ذلك اليوم واظب ((رجال النظام)) في دور بلديات دوائر باريس على إلقاء خطابات المصالحة، بينما كانوا يقسمون اليمين، في الكتمان طبعا، على أن ينتقموا في الوقت المناسب انتقاما دمويا من المنتصرين المفرطين في الكرامة.
لنلق الآن نظرة إلى الوجه الخلفي من الوسام. قام تيير بحملة ثانية ضد باريس في أوائل نيسان (ابريل). اللفيف الأول من الأسرى الباريسيين الذين جلبوا إلى فرساي تعرض لمعاملة فظيعة مريعة. كان أرنست بيكار يتمشى هنا و هناك في صفوفهم، ويداه في جيبي سرواله، مستهزئا بهم؛ أما مدام تيير و مدام فافر فكانتا وسط حاشيتهما النسائية، تصفقان من الشرفة للأعمال المنكرة التي يقترفها رعاع فرساي. وجنود أفواج الميدان الذين وقعوا في الأسر قتلوهم رميا بالرصاص. و صديقنا الشجاع الجنرال دوفال، سباك الحديد، قتل رميا بالرصاص دون محاكمة و تحقيق. وغاليفه، ((قواد)) زوجته التي نالت شهرة واسعة لعرض جسمها بصورة ماجنة عديمة الحياء في حفلات التهتك زمن الامبراطورية الثانية، تبجح في منشوره و أصدره بأنه أمر بقتل شرذمة صغيرة من جنود الحرس الوطني مع رئيسها و ملازمها، كان جنوده القناصة قد باغتوها على حين غرة و جردوها من سلاحها. و فينوا، الذي فر من باريس، منحه تيير الصليب الكبير من وسام جوقة الشرف لأنه أصدر أمرا عاما بأن يقتل رميا بالرصاص كل جندي من جنود الميدان يضبط وهو في صفوف الكومونيين. كما أنعم على الدركي ديمارا بوسام لأنه قام غدرا، وكما يفعل الجزارون، بتقطيع جسد فلورانس، ذلك الفارس الهمام الذي أنقذ رؤوس أعضاء حكومة الدفاع الوطني في 31 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1870. وقد أسهب تيير في التحدث ببهجة صريحة في إحدى جلسات الجمعية الوطنية ((التفصيلات المشجعة)) لهذا القتل. وبخيلاء منفوخة يتسم بها الصبي البنصر البرلماني الذي يسمح له بأن يؤدي دور تيمورلنك، أنكر على الناس الثائرين على عظمته القزمية، حق الطرف المحارب و لم يرغب حتى في مراعاة الحياد بالنسبة لمراكزهم للإسعاف. ولم يكن هناك ما هو أشنع من ذلك القرد الذي منح السلطة لترضية غرائزه، غرائز النمر – القرد النمر الذي رسم فولتير صورته (انظر الملحقين،ص35)*
و بعد المرسوم الذي أصدرته الكومونة في 7 نيسان (ابريل) و أمرت فيه بالإجراءات الانتقامية و أعلنت فيه أن من واجبها ((أن تحمي باريس من أعمال آكلة لحوم البشر من قطاع الطرق في فرساي و أن تجازي العين بالعين و السن بالسن))، لم يتنازل تيير عن شيء في معاملته الهمجية للأسرى؛ بل ظل يسخر منهم و يكتب في نشراته كما يلي: ((لم يسبق أن رأت عيون الناس الشرفاء الحزينة ممثلين للديمقراطية المشؤومة أكثر شؤما)9، – عيون الناس الشرفاء من أمثال تيير و رجال عصبته ممن يلعبون دور الوزراء. ومع هذا فإن قتل الأسرى رميا بالرصاص قد توقف لفترة من الزمن. ولكن ما كاد تيير و جنرالاته – أبطال انقلاب ديسمبر – يعلمون بأن مرسوم الكومونة باتخاذ الإجراءات الانتقامية لم يكن سوى تهديد بسيط، بل أن جواسيس الدرك الذين قبض عليهم في باريس متنكرين بملابس الحرس الوطني و حتى رجال الشرطة الذين ألقي عليهم القبض و في حوزتهم قذائف محرقة قد تركوا و شأنهم – ما كادوا يعلمون بذلك حتى استأنفوا قتل الأسرى بالجملة رميا بالرصاص و واصلوا دون انقطاع إلى النهاية. و البيوت التي اختبأ فيها رجال الحرس الوطني قام الدركيون بتطويقها و صبوا عليها الكيروسين (واستعمل هنا الكيروسين لأول مرة في هذه الحرب) ثم أشعلوا فيها النيران؛ فيا بعد قام مستشفى الميدان التابع لرجال الصحافة بإخراج الجثث المتفحمة في حي تيرن. أربعة من رجال الحرس الوطني الذين استسلموا إلى شرذمة من الفرسان القناصة عند بيل –ابن في 25 نيسان (ابريل) قتلوا رميا بالرصاص، الواحد تلو الآخر، من قبل رئيس هؤلاء القناصة، وهو من خدم غاليفه الأفاضل. وقد تمكن أحد هؤلاء الجنود من الحرس الوطني، شيفير، وكانوا قد تركوه ظنا أنه قد مات، من أن يزحف بصعوبة عائدا إلى الحصون الباريسية الأمامية وقرر هذا الواقع أمام لجنة من لجان الكومونة. وعندما استجوب تولين بشأن تقرير هذه اللجنة، ليفلو وزير الحربية، أغرق ((النواب الملاكون العقاريون)) صوته بالصياح ومنعوا ليفلو من الجواب: إنه لمن الإهانة لجيشهم ((المجيد)) التحدث عن أفعاله المجيدة. فإن اللهجة المتعالية التي أعلنت بها نشرات تيير قتل الكومونيين الذين بوغتوا، وهم نيام، في مولان – ساكه، طعنا بالحراب، و القتل الجماعي رميا بالرصاص في كلامار قد صدمت أعصاب حتى صحيفة ((Times)) (التايمز) اللندنية التي لا تتسم عادة بحساسية كبيرة. ولكن من العبث أن يحاول المرء أن يعد جميع فظائع الناس اللذين قصفوا باريس بالمدافع، فظائع مثيري عصيان مالكي العبيد الذين كان يحميهم الفاتح الأجنبي. وفي غمار هذه الأهوال جميعا كان تيير، وقد نسي جمله البرلمانية حول المسؤولية الهائلة الملقاة على كتفي هذا القزم، يتبجح في نشراته بأن paisiblement LAssemblee siege (الجمعية تعقد جلساتها بسلام) ويثبت بحفلات الغداء التي كان يقيمها تارة مع جنرالاته، أبطال انقلاب كانون الأول (ديسمبر)، وطورا مع الأمراء الألمان، إن عملية الهضم عنده لم تضطرب حتى من شبحي ليكونت و كليمان توما.
في صباح 18 آذار (مارس) عام 1871، صحت باريس على صيحة قصف الرعد: ((عاشت الكومونة!)). فما هي الكومونة، أبو الهول ذاك الذي طرح هذا اللغز الصعب على العقول البرجوازية؟
كتبت اللجنة المركزية في بيانها الصادر بتاريخ 18 آذار (مارس) ما يلي: ((إن برليتاريي باريس أدركوا، إذ رأوا إخفاقات الطبقات الحاكمة و خيانتها، أنه قد أزفت الساعة التي يترتب عليهم فيها أن ينقذوا الوضع بأن يأخذوا بأيديهم إدارة الشؤون العامة… لقد أدركوا أن هذا الواجب الآمر ملقى على عاتقهم و إن من حقهم الأكيد أن يجعلوا أنفسهم سادة لمصائرهم الخاصة و يأخذوا السلطة الحكومية في أيديهم)). بيد أن الطبقة العاملة ليس في وسعها أن تضع يدها ببساطة على الأداة الحكومية الجاهزة و أن تسيرها لمقاصدها الخاصة.
إن سلطة الدولة المتمركزة مع أجهزتها المنتشرة في كل مكان و القائمة على مبدأ تقسيم العمل تقسيما منتظما و مراتبيا – مع الجيش الدائم و الشرطة و البيروقراطية ورجال الدين و الهيئة القضائية – ترجع في الأصل إلى أيام الملكية المطلقة حينما كانت بالنسبة للمجتمع البرجوازي الناشئ بمثابة سلاح قوي يستخدمه في كفاحه ضد الإقطاعية. ومع هذا فإن تطورها ظلت تقف في طريقه جميع أشكال نفايات القرون الوسطى من حقوق أسياد الأراضي و النبلاء المطلقة و الامتيازات المحلية واحتكارات البلديات و المشاغل و القوانين الإقليمية. وقد عمدت الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر وكنست بمكنستها الهائلة جميع هذه النفايات البالية المتخلفة عن العصور الخالية وأزالت بذلك عن التربة الاجتماعية العراقيل الأخيرة التي كانت تحول دون تشييد صرح الدولة الحديثة. وقد شيد هذا الصرح في عهد الامبراطورية الأولى التي كانت هي ذاتها ثمرة حروب الائتلاف التي شنتها أوروبا القديمة شبه الإقطاعية ضد فرنسا الحديثة. وخلال قيام النظم التالية كانت الحكومة خاضعة للإشراف البرلماني – أي لإشراف الطبقات المالكة المباشر. فمن جهة تحولت الحكومة إلى منبت للديون القومية التي لا عد لها و الضرائب الباهظة، و أصبحت مثار الاختلاف بين الكتل المتنافسة و مغامري الطبقات الحاكمة الذين كانت تجذبهم إليها بصورة لا مرد لها، قوتها الإدارية، ومداخيلها و مناصبها؛ من جهة أخرى تغير طابعها السياسي بتأثير التغيرات الاقتصادية في المجتمع. وبقد ما كانت تقدم الصناعة الحديثة يطور و يوسع و يعمق التناقض الطبقي بين الرأسمال و العمل، كانت سلطة الدولة تتخذ أكثر فأكثر طابع سلطة الرأسمال القومية على العمل، طابع قوة اجتماعية نظمت من أجل الاستعباد الاجتماعي، طابع أداة للسيطرة الطبقية.* وبعد كل ثورة تؤذن بخطوة معينة إلى أمام في النضال الطبقي، يتجلى طابع الاضطهاد المحض لسلطة الدولة على نحو أوضح. إن ثورة 1830 قد نزعت السلطة من ملاكي الأراضي ونقلتها إلى الرأسماليين، أي أنها نقلتها من أيدي أعداء الطبقة العاملة الأبعدين إلى أعداءها الأقربين. وقد استولى الجمهوريون البرجوازيون على سلطة الدولة باسم ثورة شباط (فبراير) وسخروها للقيام بمذبحة حزيران (يونيو)؛ ولقد برهنوا بهذه المذبحة للطبقة العاملة ن على أن الجمهورية ((الاجتماعية)) لا تعني غير استعبادها اجتماعيا من قبل الجمهورية، كما برهنوا لسواد البرجوازية الملكي النزعة ولطبقة مالكي الراضي على أنهما يستطيعان أن يتركا إلى ((الجمهوريين)) البرجوازيين دون أي عائق، هموم الإدارة ومنافعها المالية. غير أن الجمهوريين البرجوازيين قد اضطروا، بعد مأثرتهم في حزيران (يونيو) إلى أن يتقهقروا من مقدمة حزب النظام إلى مؤخرته – وهو حزب ائتلافي مؤلف من جميع كتل و أحزاب الطبقات المنتجة. و الشكل الأنسب لإدارتها المشتركة جاءت الجمهورية البرلمانية ولويس بونابرت رئيسا لها؛ كانت هذه حكومة الإرهاب الطبقي السافر و الإهانة المتعمدة ((للرعاع الأنذال)) كانت الجمهورية البرلمانية، كما قال تيير، ذاك الشكل من الحكم الذي ((فرق مختلف كتل الطبقة الحاكمة أقل من غيره)9، إلا أنه فتح هوة بين هذه الطبقة القليلة العدد وبين الهيئة الاجتماعية بأسرها القائمة خارجها. لقد كانت النزاعات داخل هذه الطبقة تفرض، في عهود الحكومات السابقة، قيودا معينة على سلطة الدولة؛ أما الآن فقد أزيلت هذه القيود بفضل اتحاد هذه الطبقة. و بالنظر لتهديد انتفاضة البروليتاريا أخذت الطبقة المالكة المتحدة تستخدم سلطة الدولة، بصفاقة ووقاحة، كآلة قومية لحرب الرأسمال ضد العمل. بيد أن حملتها الصليبية غير المنقطعة ضد سواد المنتجين قد أجبرها من جهة على أن تمنح السلطة التنفيذية حقوقا متزايدة لقمع المقاومة، و أجبرها من جهة أخرى على أن تنزع تدريجيا من معقلها البرلماني – الجمعية الوطنية – جميع وسائله للدفاع ضد السلطة التنفيذية؛ ولويس بونابرت الذي كان يمثل هذه السلطة التنفيذية قد فرق ممثلي الطبقة الحاكمة. وكانت الامبراطورية الثانية النتيجة الطبيعية لجمهورية حزب النظام.
لقد صرحت الامبراطورية، التي كان ق5لب سلطة الدولة شهادة لميلادها، و الاقتراع الشامل مصادقة على قيامها، و السيف صولجانا لها، بأنها تستند إلى الفلاحين، وهم كتلة كبيرة من المنتجين ممن لم يتطوروا بصورة مباشرة في الصراع بين الرأسمال و العمل. ولقد ادعت الامبراطورية بأنها منقذة الطبقة العاملة بحجة أنها هدمت البرلمانية وهدمت معها انقياد الحكومة السافر للطبقات المالكة، و ادعت بأنها منقذة الطبقات المالكة بحجة أنها دعمت سيطرتها الاقتصادية على الطبقة العاملة. وقد ادعت أخيرا بأنها وحدت جميع الطبقات حول شبح للمجد القومي عاد إلى الحياة ثانية. أما في الحقيقة، فقد كانت الامبراطورية الشكل الوحيد الممكن للحكم في وقت فقدت فيه البرجوازية المقدرة على حكم الأمة، ولم تكتسب الطبقة العاملة فيه بعد هذه المقدرة. وقد هلل العالم بأسره للإمبراطورية باعتبارها منقذة المجتمع. وفي ظل حكمها بلغ المجتمع البرجوازي، وقد تحرر من الهموم السياسية، درجة عالية من التطور لم يكن في وسعه حتى أن يحلم بها. وراجت الصناعة و التجارة بمقاييس غير متناهية؛ و أحيت مضاربة البورصة حفلات التهتك الكوسموبوليتية؛ وبرز بؤس الجماهير بروزا صارخا بجانب اللمعان الوقح من الترف الباذخ المكتسب عن طريق الغش و الجريمة. بينما سلطة الدولة، التي تبدو كأنها تحلق عاليا فوق المجتمع، كانت، في الواقع، أفظع فضائح ذلك المجتمع و منبت مختلف المفاسد. إن حراب بروسيا التي كانت تتوق إلى نقل مركز ثقل نظام الإدارة هذا من باريس إلى برلين، قد كشفت عن جميع عفونة سلطة الدولة هذه كما كشفت في الوقت نفسه عن عفونة المجتمع الذي أنقذته. إن النظام الإمبراطوري هو أعهر شكل و آخره لسلطة الدولة التي أنشأها المجتمع البرجوازي الناشئ أداة لتحريره من الإقطاعية، و التي حولتها البرجوازية، بعد أن تطورت كامل التطور، إلى أداة لاستعباد العمل من قبل الرأسمال. و النقيض المباشر للإمبراطورية كان الكومونة. إن شعار ((الجمهورية الاجتماعية))، الذي هللت به بروليتاريا باريس لثورة شباط (فبراير)، لم يكن إلا تعبيرا عن طموح غامض إلى جمهورية ينبغي لها أن تزيل لا الشكل الملكي للحكم الطبقي فحسب بل الحكم الطبقي ذاته. و جاءت الكومونة الشك المعني بالذات لتلك الجمهورية.
إن باريس التي كانت مقر و مركز السلطة الحكومية القديمة و التي كانت في الوقت نفسه المركز الاجتماعي للطبقة
العاملة الفرنسية قد تمردت و حملت السلاح في وجه المحاولة التي قام بها تيير ومجلسه المؤلف من الملاكين
العقاريين لإعادة وتخليد تلك السلطة الحكومية القديمة التي أورثتها الامبراطورية. ولم تستطع باريس أن تقاوم إلا
لأنها قد تخلصت من الجيش نتيجة للحصار و استعاضت عنه بالحرس الوطني الذي كانت أكثريته الغالبة مؤلفة من العمال.
وكان ينبغي تحويل هذا الواقع إلى نظام مقرر، ولذلك كان أول مرسوم أصدرته الكومونة يقضي بإلغاء الجيش الدائم و
الاستعاضة عنه بالشعب المسلح.
لقد تشكلت الكومونة من أعضاء المجالس البلدية الذين اختيروا بالاقتراع الشامل
في مختلف دوائر باريس. كانوا مسؤولين وكان يمكن إلغاء التفويض الممنوح لهم في أي وقت كان. و كانت أكثريتهم،
بطبيعة الحال، من العمال أو من ممثلي الطبقة العاملة المعترف بهم. وكان يراد بالكومونة أن تكون لا هيئة
برلمانية، بل هيئة عاملة تتمتع بالسلطتين التشريعية و التنفيذية في الوقت عينه. و الشرطة التي كانت قبل ذلك
الحين أداة في أيدي الحكومة المركزية جردت في الحال من جميع وظائفها السياسية و حولت إلى هيئة للكومونة مسؤولة
يمكن تبديلها في أي وقت كان. وعلى هذا النحو كان موظفو سائر فروع الإدارة بأسرها. ومن فوق إلى أسفل، ابتداء من
أعضاء الكومونة، كان يتعين أداء الخدمة العامة لقاء أجرة تساوي أجرة العامل. و قد اختفت جميع الامتيازات و
العلاوات التي كان يتقاضاها كبار موظفي الدولة مع اختفاء هؤلاء الموظفين. وكفت الوظائف العامة عن أن تكون ملكا
خاصا للموظفين الذين تعينهم الحكومة المركزية. و انتقلت إلى أيدي الكومونة لا الإدارة البلدية فحسب بل أيضا كامل
المبادرة التي كانت تمارسها الدولة حتى ذلك الحين.
وبعد أن أزالت الكومونة الجيش الدائم و الشرطة، وهما أداتا الحكم المادي في يد الحكومة القديمة، أحذت في الحال تكسر أداة الاستعباد الروحي، ((قوة الكهنة))، وذلك بفصل الكنيسة عن الدولة و مصادرة جميع الكنائس لكونها هيئات تملك الأموال. وتعين على رجال الدين أن يعودوا إلى حياة متواضعة كأفراد بسطاء يعيشون مثل أسلافهم – الرسل، على صدقات المؤمنين. وصارت جميع المؤسسات التعليمية مجانية بالنسبة للجميع ووضعت خارج تأثير الكنيسة و الدولة. و هكذا لم يعد التعليم المدرسي في متناول الجميع فحسب بل أن العلم نفسه تحرر كذلك من القيود التي فرضتها عليه الأوهام الطبقية و السلطة الحكومية.
وفقد الموظفون القضائيون استقلالهم الصوري الذي لم يكن سوى قناع يخفي تملقهم الذليل لجميع الحكومات المتعاقبة التي كانوا يؤدون لها على التوالي يمين الولاء ثم ينكثون به. و كان من المترتب عليهم، شأنهم شأن سائر موظفي المجتمع، أن ينتخبوا في المستقبل بصورة مكشوفة و أن يكونوا مسؤولين و عرضة للخلع.
وكان لكومونة باريس أن تغدو، بلا شك، نموذجا لجميع المراكز الصناعية الكبرى في فرنسا. و إذا استقر نظام الكومونة في باريس و المراكز الثانوية، تنازلت الحكومة المتمركزة القديمة عن مكانها لإدارة المنتجين الذاتية في الأقاليم أيضا. وقد ورد بوضوح في موجز التنظيم القومي الذي لم يتوفر للكومونة الوقت لوضعه بتفصيل أكبر، إن الكومونة يجب أن تصير الشكل السياسي حتى لأصغر قرية، و إن الجيش الدائم يجب الاستعاضة عنه في أرجاء البلاد بميليشيا شعبية تكون مدة الخدمة فيها قصيرة للغاية. وكان على جمعية المفوضين المجتمعين في حاضرة الدائرة أن تدير الشؤون العامة للكومونات الريفية في كل دائرة، وكان على جمعيات الدوائر هذه أن ترسل بدورها مفوضيها إلى الجمعية الوطنية التي تنعقد في باريس؛ وكان على المفوضين أن يتقيدوا بدقة بتعليمات منتخبيهم (التفويض الآمر) و أن يكونوا عرضة للخلع في أي وقت. و الوظائف القليلة، و لكنها الهامة جدا، التي كانت ستظل في يد الحكومة المركزية لم تكن لتلغى، – ومثل هذا الزعم كان تزويرا عن عمد – بل كان يجب نقلها إلى موظفي الكومونة، أي إلى موظفين ذوي مسؤولية محددة تحديدا دقيقا. ووحدة الأمة لم تكن لتفصم بل بالعكس كانت ستنظم عن طريق البناء الكوموني. وكان لوحدة الأمة أن تصبح حقيقة بتدمير سلطة الدولة التي كانت تدعي بأنها تجسيد لتلك الوحدة، ولكنها كانت ترغب في أن تكون مستقلة عن الأمة، مستعلية عليها. أما في الواقع فلم تكن سلطة الدولة هذه إلا بمثابة الزائدة الطفيلية على جسم الأمة. وكانت المهمة هي بتر أجهزة الاضطهاد البحتة التابعة للسلطة الحكومية القديمة، و انتزاع الوظائف المشروعة من سلطة تطمع أن تكون فوق المجتمع وتسليمها إلى خدام المجتمع المسؤولين. وبدلا من البت مرة كل ثلاث سنوات أو ست أي عضو من الطبقة الحاكمة يجب أن يمثل و يقمع الشعب في البرلمان، كان يجب على حق الانتخاب العام، بدلا من ذلك، أن يخدم الشعب، المنظم في الكومونات، قصد البحث لمؤسسته عن عمال و مراقبين و محاسبين، كما يخدم حق الانتخاب الفردي لهذا الغرض أيا كان من أرباب العمال. فمعروف أن المؤسسات، شأنها شأن الأفراد تماما، تعرف عادة كيف تضع لأغراضها الشخص المناسب في المكان المناسب، و إذا ارتكبت خطأ مرة من المرات فهي تعرف كيف تصلح خطأها توا. ومن ناحية أخرى كانت الكومونة، بلا شك، في جوهرها ذاته، مناوئة للاستعاضة عن الاقتراع الشامل بالتعيين المراتبي.*
إن نصيب الإبداع التاريخي الجديد بوجه عام، إنه اعتبر صنوا لأشكال قديمة أو حتى أشكال بائدة في الحياة الاجتماعية تشبهها مؤسسات جديدة بعض الشبه. وهكذا فإن هذه الكومونة الجديدة التي تحطم سلطة الدولة الحديثة اعتبرت بمثابة بعث لكومونات العصور الوسطى التي سبقت نشوء سلطة الدولة تلك وكونت أساسا لها. – و أعتبر البناء الكوموني عن خطأ محاولة للاستعاضة باتحاد الدول الصغيرة (الذي حلم به مونتسيكو و الجيرونديون) عن تلك الوحدة التي أصبحت الآن عاملا قويا في الإنتاج الاجتماعي – عند الأمم الكبرى – رغم أنها قامت في البدء عن طريق العنف. – و التناحر بين الكومونة و سلطة اعتبر عن خطأ شكلا مضخما للكفاح القديم ضد الإفراط في التمركز. و كان في مستطاع الظروف التاريخية الخاصة أن تحول دون التطور الكلاسيكي للشكل البرجوازي للحكم، كما كان الحال في فرنسا، و أن تؤدي، كما في بريطانيا مثلا، إلى إكمال هيئات الدولة المركزية الرئيسية بمجالس كنيسة (vestries) مأجورة و بأعضاء جشعين من المجالس البلدية و بمهيمنين ضوار على الفقراء في المدن و بقضاة صلح وراثيين في واقع الأمر في القرى. إن البناء الكوموني كان سيعيد إلى الجسم الاجتماعي جميع القوى التي ابتلعتها حتى ذلك الحين الزائدة الطفيلية، ((الدولة))، التي تقتات على حساب المجتمع و تعيق تقدمه الحر. وهذا وحده كان يكفي لأن يتقدم بعث فرنسا. – إن برجوازية مدن الملحقات رأت في الكومونة محاولة لإعادة السيطرة التي كانت تتمتع بها عليا الريف في عهد لويس فيليب، و التي حلت محلها في عهد لويس بونابرت سيطرة الريف المزعومة على المدن. و الواقع أن البناء الكومونة كان سيضع المنتجين الريفيين تحت القيادة الروحية لحواضر كل منطقة و يؤمن لهم هناك، في شخص عمال المدن، الممثلين الطبيعيين لمصالحهم. إن وجود الكومونة انطوى في حد ذاته، و كشيء بديهي، على الإدارة الذاتية المحلية، ولكنها لم تبق ثقلا معاكسا لسلطة الدولة التي صارت الآن زائدة. و لم يكن يخطر ببال شخص إلا كبيسمارك الذي يكرس وقته كله، عندما لا يكون مشغولا بمكائد في مركز صدارتها دائما الدم و الحديد، لنشاطه الطويل القديم الذي يلاءم كل الملاءمة مؤهلاته العقلية، في مجلة ((Kladderadatsch)) (مجلة ((punch)) البرلينية) (12)، لم يكن يخطر إلا ببال إنسان كهذا أن يغزو إلى كومونة باريس الطموح إلى تنظيم البلديات البروسي – الصورة الكاريكاتورية عن تنظيم البلديات الفرنسي لسنة 1791 – الذي يحط من شأن البلديات الذاتية و يجعلها مجرد عجلات ثانوية في جهاز الدولة البروسية البوليسي.
لقد جعلت الكومونة من ذلك الشعار الذي نادت به جميع الثورات البرجوازية – الحكومة القليلة النفقات – حقيقة، وذلك بإلغاء أكبر بابين من أبواب النفقات: الجيش الدائم و سلك الموظفين. ووجود الكومونة في حد ذاته كان إنكارا للملكية التي هي، في أوروبا على الأقل، الصابورة العادية و القناع الذي لا يستغنى عنه للسيطرة الطبقية. لقد أمدت الكومونة الجمهورية بأساس للمؤسسات الديمقراطية حقا. ولكن لا الحكومة القليلة النفقات ولا ((الجمهورية الحقيقية)) كانتا هدفها النهائي، لقد كانتا مجرد مرافقتين لها.
إن تعدد الشروح التي استتبعتها الكومونة وتعدد المصالح التي وجدت فيها تعبيرا عنها يثبتان أنها كانت شكلا سياسيا مرنا تماما. بينما كانت جميع الأشكال السابقة للحكومة أشكال الاضطهاد من حيث جوهرها، وكان سرها الحقيقي هو هذا: كانت، من حيث الجوهر، حكومة الطبقة العاملة، كانت نتاج كفاح طبقة المنتجين ضد طبقة المستملكين؛ كانت الشكل السياسي الذي اكتشف أخيرا و الذي كان يمكن أن يتم في ظله انجاز التحرير الاقتصادي للعمل. ولولا هذا الشرط الأخير لكان البناء الكومونة مستحيلا و لكان غشا. إن حكم المنتجين السياسي لا يمكن أن يقوم جنبا إلى جنب مع تخليد عبوديتهم الاجتماعية. ولذلك كان لابد أن تقوم الكومونة بدور أداة لتحطيم الدعائم الاقتصادية التي يعتمد عليها وجود الطبقات ذاته و بالتالي السيطرة الطبقية. ومع تحرير العمل سيغدو الجميع عمالا و سيكف العمل المنتج على أن يكون خاصة طبقة معينة.
شيء غريب: على الرغم من كل الكلام وكل المؤلفات خلال السنوات الستين الأخيرة حول تحرير العمال، لا يكاد العمال يأخذون القضية بأيديهم بعزم، في مكان ما، حتى تتعالى ضدهم على الفور تعابير المدافعين عن المجتمع الراهن مع قطبيه المتناقضين: الرأسمال و عبودية العمل المأجور (مالكو الأراضي ما هم الآن إلا الشركاء الخرس للرأسماليين). كأن المجتمع الرأسمالي ما يزال في أنقى حالات الطهارة و العذرة! وكان تناقضاته لما تتطور، وأوهامه لما تتكشف، وحقائقه العاهرة لما تفضح! إنهم يقولون: الكومونة تعتزم إلغاء الملكية – أساس المدنية بأسرها! نعم، أيها السادة المحترمون، إن الكومونة كانت تعتزم إلغاء تلك الملكية الطبقية التي تجعل عمل الكثرة ثروة القلة؛ كانت تعتزم مصادرة ملكية المغتصبين. كانت تريد أن تجعل الملكية الفردية حقيقة واقعية بتحويل وسيلتي الإنتاج، الأرض و الرأسمال، اللتين هما الآن، قبل كل شيء، أداتا استعباد العمال و استثمارهم، إلى أداتين للعمل الحر المشترك. – ولكن هذه شيوعية، شيوعية ((مستحيلة))! غير أن أولئك الممثلين من الطبقات الحاكمة – وهم كثيرون – الذين أسعفهم ذكاؤهم فأدركوا استحالة استمرار الوضع الراهن طويلا قد غدو رسل الإنتاج التعاوني اللجوجين الضجاجين. و إذا كان للإنتاج التعاوني ألا يظل كلاما فارغا أو خداعا، إذا كان له أن يحل محل النظام الرأسمالي، إذا نظمت الجمعيات الإنتاج الوطني بناء على خطة مشتركة ووضعته تحت إشرافها هي، فوضعت بذلك حدا للفوضى الدائمة و النوبات الدورية التي هي القضاء المحتوم للإنتاج الرأسمالي – ألا يكون ذلك، وهذا ما نسألكم، أيها السادة المحترمون، شيوعية، شيوعية ((ممكنة))؟
إن الطبقة العاملة لم تكن تنتظر المعجزات من الكومونة. إنها لا تنوي أن تحقق، بقرار الشعب، طوباويات جاهزة متممة. إنها تدرك أن عليها، لكي تحرر نفسها وتصل إلى ذلك الشكل الأعلى الذي يسعى إليه المجتمع الحالي بصورة لا تقاوم، بفعل تطوره الاقتصادي ذاته، أن تخوض نضالا عنيدا و أن تجتاز سلسلة كاملة من العمليات التاريخية التي تغير الظروف والناس تغييرا تاما و ما ينتظر الطبقة العاملة ليس بمثل عليا تحققها، إنما عليها أن تفسح فقط مجالا لعناصر المجتمع الجديد التي تطورت في أحشاء المجتمع البرجوازي القديم بسبيل الانهيار. وفي وسع الطبقة العاملة، بإدراكها التام لرسالتها التاريخية وبعزمها البطولي على أن ترتفع إلى مستوى هذه الرسالة، أن تواجه بابتسامة ساخرة الشتائم المقذعة التي يطلقها عليها الصحفيون الخدم و العظات التوجيهية التي يسبغها عليها العقائديون البرجوازيون ذوو الرغبات الطيبة فيصبون تفاهاتهم الكاذبة و يقدمون و صفاتهم الوهمية بلهجة كاهن معصوم.
عندما أخذت كومونة باريس قيادة الثورة على عاتقها، وعندما جر} العمال البسطاء، لأول مرة، على التعدي على امتياز ((رؤسائهم الطبيعيين)) – الطبقات المالكة – امتياز الحكم بالذات، باشروا العمل في ظروف ليس لها مثيل في صعوبتها و أدوه في تواضع و إخلاص و نجاح؛ ولم يزد أعلى مرتباتهم عن خمس مرتب يتقاضاه، على ما قرره أحد ثقات العلم *، سكرتير مجلس من المجالس المدرسية في ندن. و تلوى العالم القديم من تشنجات الغضب لدى رؤية العلم الأحمر – رمز جمهورية العمل، يخفق فوق بناية بلدية المدينة.
ومع هذا فقد كانت هذه هي الثورة الأولى التي اعترف فيها صراحة للطبقة العاملة بأنها الطبقة الوحيدة التي لا تزال قادرة على القيام بالمبادرات الاجتماعية؛ وقد اعترف بذلك حتى الفئات الواسعة من الطبقة الوسطى في باريس – صغار الباعة و الحرفيون و التجار – أي الجميع باستثناء ثراة الرأسماليين. لقد أنقذت الكومونة صغار الباعة و الحرفيين و التجار بإيجاد تسوية حكيمة لقضية كانت دائما سببا للنزاع في الطبقة الوسطى نفسها، – قضية الدائن و المدين * هذا القسم من الطبقة الوسطى اشترك سنة 1848 في قمع انتفاضة حزيران (يونيو) التي قام بها العمال، وعلى إثر ذلك قدمته الجمعية التأسيسية ضح0ية لدائنيه دون أي حياء. بيد أن هذا ليس هو الحافز الوحيد الذي انضم بسببه الآن إلى العمال. كان يشعر بأن عليه أن يختار بين الكومونة و الامبراطورية مهما يكن الاسم الذي قد تظهر تحته. الامبراطورية خربت هذا القسم من الطبقة الوسطى اقتصاديا باختلاسها الثروة العامة وبحماية مضاربة البورصة و بالتعجيل الاصطناعي لتركيز الرأسمال وما سببه هذا التركيز من مصادرة أموال قسم ملحوظ من هذه الطبقة الوسطى. كانت الامبراطورية تضطهد أبناء هذا القسم سياسيا و تثير استياءهم أخلاقيا بحفلات التهتك؛ وكانت تهين فولتيريتهم بتسليمها تعليم أطفالهم إلى ((الآباء الجهلة))؛ و أثارت مشاعرهم القومية، كفرنسيين، بتطويحها بهم بصورة متهورة في هذه الحرب التي لم تكافئ جميع بلاياها إلا بشيء واحد – إسقاط الامبراطورية. و الواقع أنه بعد فرار زمرة كبار الموظفين البونابرتيين و الرأسماليين من باريس التف حزب النظام الحقيقي للطبقة الوسطى، الذي عمل باسم الاتحاد الجمهوري، حول راية الكومونة و ذاد عنها ضد افتراء تيير. أما فيما إذا كان عرفان الجميل لهذا السواد من الطبقة الوسطى يصمد للمحن الشديدة الراهنة فهذا ما سيبينه المستقبل.
لقد كانت الكومونة على حق كل الحق أن تعلن للفلاحين أن ((انتصارها هو أملهم الوحيد!)) فمن بين أفظع الافتراءات التي فرخت في فرساي و التي نشرها في أرجاء العالم كله الباشبوزوقات الأماجد من الصحافة الأوروبية، القول بأن ((النواب الملاكين العقاريين)) كانوا يمثلون الفلاحين الفرنسيين. كم هو قابل للتصديق هذا الحب الذي بدأ فجأة في الفلاحين الفرنسيين نحو الرجال الذين كان على الفلاحين أن يدفعوا إليهم بعد سنة 1815 مكافأة قدرها مليار، أليس كذلك؟! إن وجود المالك العقاري الكبير في حد ذاته يشكل، في نظر الفلاح الفرنسي، مطاولة على مكتسباته سنة 1789. لقد فرض البرجوازيين سنة 1848 على أراضي الفلاحين ضريبة إضافية تبلغ 45 سنتيما في الفرنك، بيد أنهم فعلوا ذلك باسم الثورة؛ و الآن أثاروا حربا أهلية ضد الثورة ليلقوا على عواتق الفلاحين العبء الرئيسي من غرامة المليارات الخمسة التي تعهدوا بدفعها إلى البروسيين. أما الكومونة فقد أعلنت، على عكس ذلك، في أحد منشوراتها الأولى أن مثيري الحرب الحقيقيين هم الذين ينبغي لهم أن يتحملوا عبأها. كانت الكومونة ستحرر الفلاح من ضريبة الدم و ستمنحه حكومة قليلة النفقات، ستحل محل مصاصي دمائه الحاليين – كتاب العدل و المحامين و كتبة المحاكم و غيرهم من مصاصي الدماء القضائيين – موظفين كومونيين يتقاضون مرتبات و يقوم هو بانتخابهم و يكونون مسؤولين أمامه. كانت ستحرره من تصرفات الشرطة الريفية و رجال الدرك و مدراء المحافظات؛ كانت ستضع تثقيف معلم المدرسة مكان تسفيه الكاهن. و الفلاح الفرنسي الذي هو قبل كل شيء رجل يحسن الحساب، كان سيجد من المعقول جدا أن تدفع رواتب الكهنة لا من مبالغ يجمعها الجابي بل من تبرعات اختيارية يتوقف قدرها على درجة تقوى الرعية. تلك هي النعم المباشرة الكبرى التي كانت تنتظر الفلاحين الفرنسيين على يد حكم الكومونة – الكومونة فقط. فلا طائل إذا أن نقف هنا و نتكلم عن القضايا الأكثر تعقيدا و الحيوية حقا التي كانت الكومونة وحدها تستطيع و يجب عليها أن تحلها لصالح الفلاحين – كقضية الدين العقاري الذي كان جاثما كالكابوس على قطعة أرض الفلاح الصغيرة جدا، و قضية البروليتاريا الريفية التي تتزايد من يوم إلى آخر، و قضية مصادرة أملاك الفلاحين أنفسهم التي كانت تجري بسرعة متزايدة بفضل تطور الزراعة الحديثة و مزاحمة الزراعة الرأسمالية.
إن الفلاحين الفرنسيين هم الذين انتخبوا لويس بونابرت رئيسا للجمهورية و لكن حزب النظام هو الذي خلق الامبراطورية
الثانية (13). وما يريده الفلاح الفرنسي حقا بدأ يجهز به
في سنة 1849 و سنة 1850 بأن عارض رئيس بلديته بمدير المحافظة الحكومي، و عارض معلم مدرسته بكاهن الحكومة، و عارض
نفسه بدركي الحكومة. وجميع القوانين التي سنها حزب النظام في كانون الثاني (يناير) و شباط (فبراير) سنة 1850
كانت موجهة، باعترافه هو نفسه، ضد الفلاحين. لقد كان الفلاح بونابرتيا لأنه مثل الثورة العظمى و الفوائد التي
جرتها عليه في شخص نابليون. ولكن هذا الوهم قد تبدد بسرعة في عهد الامبراطورية الثانية. هذه الخرافة من خرافات
الماضي (وهي في جوهرها كانت معادية ((للنواب الملاكين العقاريين))) – أنى لها أن تقف في وجه التفات
الكومونة إلى مصالح الفلاحين الحيوية وحاجاتهم الملحة؟
ولقد كان ((النواب الملاكون العقاريون)) يعرفون جيدا
(وكان هذا أخشى ما يخشونه) إن ثلاثة أشهر من الاتصال الحر بين باريس الكومونية و الأقاليم ستؤدي إلى نشوب
انتفاضة فلاحية عامة. ومن هنا نشأ استعجالهم الجبان في ضرب حصار بوليسي حول باريس ليحول دون انتشار العدوى.
و هكذا إذا كانت الكومونة هي الممثل الحقيقي لجميع العناصر السليمة في المجتمع الفرنسي و كانت، بالتالي، الحكومة الوطنية حقا، فقد كانت في الوقت نفسه، باعتبارها حكومة العمال مناضلة جريئة في سبيل تحرير العمل، أممية بكل معنى هذه الكلمة. و تحت بصر الجيش البروسي الذي كان قد ضم إلى ألمانيا إقليمين فرنسيين، كانت الكومونة تضم إلى فرنسا عمال الدنيا قاطبة.
إن الامبراطورية الثانية كانت عيدا للنصب الكوسموبوليتي. وقد استجاب لندائها النصابون من جميع الأقطار ليشتركوا في حفلاتها التهتكية و في نهب الشعب الفرنسي. وحتى هذه اللحظة ما يزال ساعد تيير الأيمن هو غانيسكو الغشاش من ولاشيا، وساعده الأيسر هو ماركوفسكي الجاسوس الروسي. لقد أفسحت الكومونة المجال لجميع الأجانب لينالوا شرف الموت من أجل قضية خالدة. وقد تمكنت البرجوازية في فترة مابين الحرب الخارجية التي خسرت بسبب خيانتها و الحرب الأهلية التي نشبت بسبب تآمرها مع الغازي الأجنبي من أن تظهر وطنيتها بتنظيم حملات قنص بوليسية ضد الألمان في فرنسا كلها. أما الكومونة فقد عينت عاملا ألمانيا وزيرا للعمل فيها. وكان تيير و البرجوازية و الامبراطورية الثانية يخادعون البولونين بصورة متواصلة بترديدهم بصوت عال مزاعم العطف عليهم بينما كانوا في حقيقة الأمر يخونونهم في صالح روسيا ويقومون بعملها القذر. أما الكومونة فقد أكرمت أبناء بولونيا الأبطال بوضعهم على رأس المدافعين عن باريس. ولكي تضع الكومونة علامة فارقة أوضح على هذه الحقبة الجديدة من التاريخ التي استهلتها عن إدراك، قامت تحت بصر البروسيين المنتصرين من جهة وتحت بصر الجيش البونابرتي الذي يقوده جنرالات بونابرتيون من جهة أخرى، بهدم ذلك الرمز الشامخ من رموز المجد العسكري – مسلة فندوم.
إن الإجراء الاجتماعي العظيم الذي قامت به الكومونة هو وجودها بالذات و نشاطها. و بعض الإجراءات التي قامت بها ما كانت إلا مجرد دلالة على الاتجاه الذي تتطور فيه إدارة الشعب بواسطة الشعب نفسه. ومنها إلغاء العمل الليلي بالنسبة للخبازين؛ منع تخفيض الأجور بفرض الغرامات على العمال بحجج مختلفة، وذلك تحت طائلة العقوبة – وفرض الغرامات اسلوب عادي يلجأ إليه أرباب العمل فيجمعون في شخصهم السلطة التشريعية و القضائية و التنفيذية و يضعون أموال الغرامة في جيوبهم. و إجراء آخر من هذه الفئة كان تسليم جميع الورش و المعامل التي فر أصحابها أو أوقفوا العمل فيها، إلى جمعيات العمال مع منحها الحق في المكافأة.
إن الإجراءات المالية التي قامت بها الكومونة وهي إجراءات مرموقة في حصافتها و اعتدالها، ما كان ممكنا أن تكون إلا من النوع الذي يتفق وحالة مدينة محاصرة. فقد نهبت شركات الصيارفة ومقاولو البناء تحت قيادة هاوسمان * مدينة باريس إلى درجة أن الكومونة كان لديها من الحق في مصادرة أموالهم أكثر بكثير من حق لويس بونابرت في مصادرة أموال أسرة أورليان. إن آل هوهنزوليرن و الأريستوقراطيين الانكليز الذين يتألف القسم الأكبر من ثرواتهم من ممتلكات الكنيسة المنهوبة، قد تملكهم استياء شديد من الكومونة بطبيعة الحال مع أن الكومونة لم تحصل إلا على 8000 فرنك من مصادرة ممتلكات الكنيسة.
وحالما استردت حكومة فرساي بعض الروح و القوة، أخذت تلجأ إلى أعنف التدابير ضد الكومونة؛ فقد خنقت حرية التعبير عن الرأي في جميع أنحاء فرنسا و منعت حتى عقد اجتماعات مندوبي المدن الكبرى؛ ووزعت في فرساي وبقية فرنسا جواسيسها بمقاييس تزيد كثيرا عنها في عهد الامبراطورية الثانية؛ وكان دركيوها، أشبه برجال محاكم التفتيش، يحرقون جميع الصحف الصادرة في باريس و يفضون جميع الرسائل من باريس و إليها؛ وكانت الجمعية الوطنية ترد على أخجل محاولة لقول كلمة دفاعا عن باريس، بزعيق مسعور على نحو لم يعرفه حتى ((المجلس الذي لا مثيل له)) لسنة 1816. إن حكام فرساي لم يكونوا يشنونها حربا ضارية ضد باريس فحسب بل كانوا يبذلون جهدهم للعمل داخل باريس عن طريق الرشوة والتآمر. فهل كان في وسع الكومونة أن تراعي في مثل هذه الظروف أشكال الليبرالية المصطنعة كما يحدث إبان السلم الشامل التام، دون خيانة رسالتها خيانة شنعاء؟ ولو كانت حكومة الكومونة مماثلة في روحها لحكومة تيير، لما كانت هناك موجبات لمنع صحف حزب النظام في باريس و صحف الكومونة في فرساي.
وطبيعي أن أرغى نواب((مجلس الملاكين العقاريين)) و أزبدوا إذ أنه في الوقت الذي أعلنوا فيه أن العودة إلى أحضان الكنيسة هي السبيل الوحيد لخلاص فرنسا، كشفت الكومونة الكافرة عن أسرار دير بيكبوس النسائي و كنيسة سان لوران. ألم يكن ذلك سخرية لاذعة بالنسبة لتيير الذي كان يمطر جنرالات بونابرت بصلبان جوقة الشرف لمهارتهم الفائقة في خسارة المعارك و توقيع الاستسلامات و لف السجائر في ولهلمزهيي بينما كانت الكومونة تطرد و تعتقل جنرالاتها لدى أدنى ظن بتقصيرهم في أداء واجباتهم؟ ألم يكن ذلك صفعة في وجه جول فافر صانع الوثائق المزورة، الذي كان ما يزال وزيرا لخارجية فرنسا و الذي باعها إلى بيسمارك و أملى أوامره على حكومة البلجيك المنقطعة النظير، في حين أن الكومونة طردت أحد أعضائها و اعتقلته وهو الذي اندس فيها تحت اسم مزور وسبق له أن سجن ستة أيام في ليون في جريمة اختلاس؟ بيد أن الكومونة لم تكن تدعي العصمة كما فعلت ذلك جميع الحكومات القديمة دون استثناء. فقد كانت تنشر جميع تقارير جلساتها وتعلن عن جميع أفعالها؛ وكانت تطلع الجمهور على كل نقائصها.
في كل ثورة يبرز، إلى جانب ممثليها الحقيقيين، رجال من طابع مغاير. بعضهم، من جهة، مشتركو الثورات السابقة و عابدوها الخرافيون ممن لا يعرفون مغزى الحركة الراهنة بيد أنهم لا يزالون يحتفظون بتأثير في الشعب لأمانتهم المعروفة للجميع و لشجاعتهم أو لمجرد قوة التقاليد؛ و آخرون هم مجرد زعاق يرددون العام تلو العام، تصريحاتهم المألوفة ضد الحكومات القائمة و يلقبون لذلك بلقب ثوريين من الدرجة الأولى، هذا من جهة ثانية. وبعد 18 آذار (مارس) ظهر أيضا رجال من هؤلاء و تسنى لهم أن يلعبوا دورا بارزا في بعض الأحيان. وقد عرقلوا الحركة الحقيقية للطبقة العاملة بقدر طاقتهم، تماما كما عرقل رجال من ذلك الطراز التطور التام لجميع الثورات السابقة. إنهم شر لا مناص منه؛ ولا يمكن أن يطرح هؤلاء جانبا إلا مع مضي الوقت ولكن ذلك الوقت ما كان في حوزة الكومونة.
لقد غيرت الكومونة باريس بأعجوبة من أعاجيب! لم يعد هنالك من أثر لباريس الداعرة عهد الامبراطورية الثانية. ولم تعد عاصمة فرنسا ملتقى لكبار أصحاب الأراضي البريطانيين و المتغيبين * الارلانديين و للأمريكيين من مالكي العبيد السابقين و حديثي النعمة و مالكي الأقنان الروس السابقين و للنبلاء الولاشيين. وليس هنالك أي جثة في معرض الجثث؛ ولا جرائم نهب ليلية ولا حوادث سرقة إلا فيما ندر جدا. إن شوارع باريس، لأول مرة منذ أيام شباط((فبراير)) 1848، قد غدت مأمونة بالرغم من أنه لم يكن فيها ولو شرطي واحد. لقد قال أحد أعضاء الكومونة: ((إننا لم نعد نسمع بالاغتيال و النهب والاعتداء على الأفراد؛ ويبدو حقا أن الشرطة قد جرت معها لإلى فرساي جميع أصدقائها المحافظين)). وتبعت النساء الساقطات أولياءهن، هؤلاء الفارين من أساطين العائلة و الدين، و فوق كل شيء، أساطين الملكية. وحلت محلهن من جديد نساء باريس الحقيقيات، البطلات، النبيلات المتفانيات، شأنهن شأن نساء الماضي السحيق الكلاسيكي. إن باريس عاملة مفكرة مقاتلة نازفة دما و لكنها باريس متقدة حماسة بوعي مبادرتها التاريخية، كانت شبه غافلة، وهي منهمكة بحماسة في بناء مجتمع جديد، عن آكلة لحوم البشر الواقفين قرب جدرانها!
ووجها لوجه أمام هذا العالم الجديد في باريس، كان العالم القديم في فرساي – ذلك الحشد من أوباش العهود المنقرضة جميعا – ليجيتيميون و أورليانيون يتحرقون إلى افتراس جيفة الشعب – ومعهم ذيل من جمهوريي ما قبل الطوفان يؤيدون، بوجودهم في الجمعية الوطنية، فتنة مالكي العبيد؛ لقد أملوا الاحتفاظ بجمهوريتهم البرلمانية بفضل غرور البهلول الهرم الواقف في رأس الحكم؛ و مسخوا صورة عام 1789 بعقد اجتماعات الأشباح في جو دي بوم * هكذا، فإن هذه الجمعية التي كانت تمثل كل ما هو ميت في فرنسا، واصلت حياتها الطيفية بفضل سيوف جنرالات لويس بونابرت وحدها. باريس كلها – الحقيقة؛ فرساي كلها – الكذب؛ و داعي هذا الكذب كان تيير.
إن تيير هو الذي قال لوفد من رؤساء بلديات مقاطعة السين و واز ما يلي: ((تستطيعون أن تركنوا إلى كلمتي التي ما نقضتها أبدا)). وهو قال للجمعية ((إنها بين جميع الجمعيات في فرنسا أكثرها ليبيرالية و أوفرها حرية من حيث الانتخاب))؛ وهو قال للخليط المرقع من جنده أنهم ((أعجوبة العالم و أحسن جيش ملكته فرنسا في يوم من الأيام))؛ وقال للأقاليم أن قصف باريس بالمدفعية بأمر منه هو خرافة لا أكثر: ((إذا كانت قد سقطت بعض قنابل المدافع فلم يطلقها جيش فرساي بل الثوار الذين يريدون أن يوهموا الغير بأنهم يقاتلن بينما هم لا يجرؤون على إبراز أنوفهم)). ثم هو أعلن للأقاليم فيما بعد: ((إن مدفعية فرساي لا تقصف باريس بالقنابل، إنما تطلق عليها من المدافع فحسب)). و قال لرئيس أساقفة باريس أن جميع إجراءات الإعدام بالرصاص و إجراءات القمع (!) التي نسبت إلى جنود فرساي ليست سوى كذب. وهو أعلن لباريس أنه حريص فقط على ((أن يحررها من الطغاة الكريهين الذين يظلمونها)) و أن باريس الكومونة ليست ((إلا حفنة من المجرمين لا أكثر ولا أقل)) إن باريس تيير لم تكن باريس ((الرعاع الأنذال)) الحقيقية بل باريس الطيف، باريس المستسلمين، باريس رواد البولفارات ذكورا و إناثا، باريس الثرية، الرأسمالية، المذهبة، الطفيلية؛ باريس التي تحتشد الآن بخدمها و نصابيها وممثلي فنها البوهيمي و مومساتها، في فرساي و سان – ديني و رويي وسان – جرمان، و التي لم ترفي الحرب الأهلية إلا ملهاة لطيفة، ونظرت إلى المعارك من خلال المناظير المكبرة و أحصت طلقات المدافع و أقسمت بشرفها و شرف مومساتها إن التمثيل هنا أحسن بكثير منه في مسرح باب سان –مارتان. فالقتلى كانوا أمواتا بالفعل و صرخات الجرحى لم تكن مفتعلة، وعلاوة على ذلك فإن الدراما التي دارت أمامها كانت دراما تاريخية عالمية.
هذه هي باريس تيير تماما كما كانت هجرة كوبلنتز * هي فرنسا مسيو دي كالون.
إن المحاولة الأولى التي قام بها مالكو العبيد لإخضاع باريس بجعل الجنود البروسيين يحتلونها، قد منيت بالفشل لسبب واحد هو رفض بيسمارك. و المحاولة الثانية، محاولة 18 آذار (مارس) انتهت بهزيمة الجيش وبفرار الحكومة إلى فرساي، إلى حيث تبعها كل الجهاز الإداري. وتحت ستار مفاوضات الصلح مع باريس، كان تيير يكتسب الوقت استعدادا لشن الحرب عليها. ولكن أنى له الجيش؟ إن بقايا أفواج الميدان كانت ضئيلة في عددها وروحها لا تبعث الاطمئنان؛ ونداءات تيير الملحة إلى الأقاليم لنجدة فرساي بأفراد الحرس الوطني و بالمتطوعين قوبلت بالرفض الصريح. و أرسل إقليم بريتانيا وحده حفنة من العصاة الملكيين الذين يحاربون تحت راية بيضاء و يرتدي كل واحد منهم على صدره قلب المسيح من قماش أبيض؛ و كانت صيحتهم في القتال: ((عاش الملك!)) و لهذا لم يستطع تيير أن يجمع بعجلة إلا خليطا من النوتية و جنود البحرية و جنود البابا و من جندرمة فالنتين وشرطة بييتري و جواسيسه. وقد كان هذا الجيش ضئيلا على نحو مضحك لولا أسرى الجيش البونابرتي الذين كانوا يصلون تدريجيا و الذين كان يقدمهم بيسمارك بأعداد تكفي، من جهة، لإبقاء الحرب الأهلية دائرة، ومن جهة أخرى، لبقاء فرساي في حالة تبعية ذليلة إزاء بروسيا. وفي أثناء هذه الحرب كان على شرطة فرساي أن تراقب جيش فرساي بينما كان على الدرك أن يحتلوا دائما اخطر الأماكن كي يجروه وراءهم. أما الحصون التي سقطت، فلم تؤخذ أخذا بل اشتريت. وقد أقنعت بطولة الكومونيين تيير بأن مواهبه الإستراتيجية و الحراب التي كانت تحت تصرفه لا تكفي للتغلب على مقاومة باريس.
وفي هذه الأثناء أخذت علاقاته مع الأقاليم تزداد توترا أكثر فأكثر. ولم تتلق فرساي أي رسالة استحسان من شأنها أن تشجع تيير و ((نوابه الملاكين العقاريين)) إلى هذا الحد أو ذاك. بل بالعكس تماما، فقد تدفقت الوفود و الرسائل من كل حدب و صوب تلح، في لهجة بعيدة عن لهجة الاحترام، على المصالحة مع باريس على أساس الاعتراف بلا لبس فيه ولا إبهام بالجمهورية و إقرار الحريات الكومونية و حل الجمعية الوطنية التي انتهت مدة تفويضها. و كانت الوفود و الرسائل من الكثرة بحيث أمر دوفور، وزير عدلية تيير، في منشوره المؤرخ في 23 نيسان (ابريل) بأن يعتبر المدعون العامون ((النداءات بالمصالحة)) جريمة! وإذا رأى تيير أن الحملة على باريس لا أمل منها يرتجى، قرر أن يغير التكتيك و عين الـ 30 من نيسان (ابريل) موعدا لإجراء الانتخابات البلدية في طول البلاد و عرضها على أساس قانون جديد فرضه هو نفسه على الجمعية الوطنية. وقد لجأ إلى دسائس مدرائه في المحافظات تارة و إلى تهديدات شرطته تارة أخرى و كان على ثقة أن الانتخابات في الأقاليم ستضفي على الجمعية الوطنية قوة معنوية لم تكن لها في يوم من الأيام، و إنه سيحصل من الأقاليم على القوة المادية اللازمة لإخضاع باريس.
إن الحرب اللصوصية التي شنها تيير على باريس و التي أطراها في نشراته الخاصة، و المحاولات التي قام بها وزراؤه لإقامة حكم الإرهاب في جميع أنحاء فرنسا إنما كان تيير حريصا منذ البداية على أن يتممها بمهزلة صغيرة من المصالحة كان المقصود منها أن تخدم أكثر من غرض واحد: كان عليها أن تضلل الأقاليم و أن تجتذب إليه عناصر الطبقة الوسطى في باريس و أن تتيح، قبل كل اعتبار، الفرصة لأولئك الذين يقولون بأنهم جمهوريون في الجمعية الوطنية لأن يخفوا خيانتهم لباريس وراء ثقتهم بتيير. ففي 21 آذار (مارس) عندما كان تيير ما يزال بلا جيش، صرح في الجمعية الوطنية قائلا: ((ليكن ما يكون، فإنني لن أرسل جيشا إلى باريس)). و في 27 آذار (مارس) صرح ثانية: ((لقد باشرت وظائفي، والجمهورية أمر واقع و أنا مصمم كل التصميم على صيانتها)). و الجمهورية أمر واقع فقد قمع الثورة في ليون و مرسيليا * باسم الجمهورية بينما كان ((نوابه الملاكون العقاريون)) في فرساي يستقبلون بزعيق مسعور مجرد ذكر كلمة ((الجمهورية)). وبعد هذه المأثرة المجيدة، حط من ((الأمر الواقع)) إلى المستوى الأمر الفرضي. و الأمراء الاورليانيون الذين أبعدهم عن بوردو من باب الاحتياط شرعوا يدسون الدسائس الآن في دراية و يخرقون القانون بصورة سافرة. إن الشروط التي كان تيير يذكرها في المؤتمرات التي لم تنقطع مع نواب باريس و نواب الأقاليم – رغم أن تصريحاته كانت متعارضة في لهجتها و لونها حسب الظروف – قد انحصرت دائما في وجوب الأخذ بالثأر من ((تلك الحفنة من المجرمين الذين لهم ضلع في قتل كليمان توما وليكونت)). وعليه صار من المفروض بطبيعة الحال أن تعتبر فرنسا و باريس تيير نفسه أحسن الجمهوريات، كما اعتبر تيير نفسه لويس فيليب في السنوات الثلاثين أحسن الجمهوريات. ولكن حتى هذه التنازلات، جهد تيير أن يجعلها محفوفة بالشكوك عن طريق التعليقات الرسمية التي كان يعقب بها وزراءه في الجمعية الوطنية. غير أنه لم يكتف بذلك بل قام بنشاطه بواسطة دوفور أيضا. لقد كان دوفور، المحامي الاورلياني القديم، يلعب دائما دور القاضي الأعلى في حالة الحصار سواء كما يفعل الآن عام 1871 في عهد تيير، أم كما فعل عام 1839 في عهد لويس فيليب و عام 1849 في عهد رياسة لويس بونابرت.
وعندما لم يكن يشغل منصبا وزاريا، جنى ثروة بالترافع عن رأسماليي باريس و اكتسب رأسمالا سياسيا في الوقت نفسه بالتعدي على القوانين التي سنها هو نفسه. ولم يكتف بأن مرر بصورة مستعجلة في الجمعية الوطنية مجموعة من القوانين القمعية كان القصد منها، في حال سقوط باريس، أن تستأصل آخر بقايا الحرية الجمهورية في فرنسا، بل إنه أيضا كأنما أشار إلى مصير باريس بالتدبير التالي: كانت أصول المحاكمات في المحاكم العسكرية تلوح له أصولا بطيئة للغاية فخفض آجالها و أصدر قانونا جائرا جديدا عن النفي. إن ثورة 1848 كانت قد ألغت عقوبة الموت على الجرائم السياسية و استعاضت عنها بالنفي. ولم يجرؤ لويس بونابرت، و بصورة سافرة على الأقل، على أن يعيد حكم المقصلة من جديد. ولهذا فإن ((جمعية الملاكين العقاريين)) التي لم تكن تملك حتى ذلك الحين من الشجاعة ما يجعلها قادرة على مجرد التلميح بأن الباريسيين لم يكونوا في نظرها ثوارا بل قطاع طرق، قد ترتب عليها أن تحصر تحضير الانتقام من باريس في حدود قانون النفي الجديد الذي وضعه دوفور. وفي مثل هذه الظروف، لم يكن في وسع تيير أن يواصل طويلا تمثيل مهزلة المصالحة، هذه المهزلة التي أثارت مع ذلك – وهذا ما أراده في الحقيقة ثائرة ((النواب الملاكين العقاريين)) و جنونهم إذ لم يستطيعوا ن لبلاهتهم، أن يفهموا لا ألعوبته ولا ضرورة نفاقه و ريائه و مماطلته.
ونظرا الانتخابات البلدية العتيدة في 30 نيسان (ابريل) قام تيير في الـ27 من الشهر نفسه بتمثيل مشهد من مهزلته، مهزلة المصالحة. ففي خضم طوفان من الجمل العاطفية هتف، فيما هتف، من على منبر الجمعية الوطنية: ((ليس هنالك من مؤامرة ضد الجمهورية سوى مؤامرة باريس التي ترغمنا على أن نريق الدم الفرنسي. و لكنني أكرر أيضا و أيضا: ليرموا أسلحتهم الكافرة أولئك الذين شهروها و رفعوها، فنوقف نحن سيف العدالة ونعقد معاهدة صلح لا تستثنى منها سوى حفنة من المجرمين)). وردا على الصيحات الهائجة من ((النواب الملاكين العقاريين)) الذين قاطعوا خطابه قال: ((أتوسل إليكم، أيها السادة، أن تقولوا لي، هل أنا مخطئ؟ هل تأسفون حقا إذا استطعت أن أقرر الحقيقة وهي أن المجرمين هم حفنة فحسب؟ أليس من يمنع الطالع في خضم مصائبنا أن يكون أولئك الذين استطاعوا أن يسفكوا دم الجنرال ليكونت و الجنرال كليمان توما استثناء نادرا فقط؟)) بيد أن فرنسا بقيت صماء الأذنين لخطابات تيير الذي علل نفسه بأمل أسر الجميع بأغنية حورية الماء البرلمانية. فمن بين الـ 700000 مستشار بلدي الذين انتخبهم الـ 35000 من البلدات التي كانت ما تزال باقية فرنسية لم يستطع الليجيتيميون و الاورليانيون و البونابرتيون مجتمعين أن يمرروا حتى 8000 من أنصارهم. و الانتخابات التكميلية و إعادة الاقتراع أدت إلى نتائج أكثر عداوة لحكومة تيير. وهكذا، عوضا عن أن تحصل الجمعية الوطنية من الأقاليم على المساعدة المادية اللازمة لها، فقدت حتى آخر حق في أن تكون قوة معنوية: حق اعتبار نفسها معبرة عن إرادة البلد العامة. وزيادة على الهزيمة، وجه مستشارو البلديات الذين انتخبوا حديثا في جميع المدن الفرنسية، تهديدا مكشوفا إلى جمعية فرساي التي اغتصبت الحكم بأنهم سيشكلون جمعية مضادة في بوردو.
و آنذاك أتت بيسمارك لحظة التدخل الحاسم التي طال انتظارها. فأمر تيير بلهجة الأمير بأن يرسل في الحال مفوضين إلى فرانكفورت لعقد الصلح نهائيا. وبادر تيير، في طاعة ذليلة لأمر سيده و مولاه، و أرسل إلى فرانكفورت صفيه الأمين جول فافر بصحبة بوييه – كيرتيه. وبوييه – كيرتييه هو غزال قطن ((بارز)) في مدينة روان وهو نصير متحمس بل ذليل من أنصار الامبراطورية الثانية التي لم يجد فيها عيبا من العيوب سوى المعاهدة التجارية التي عقدتها مع انكلترا وكانت ضارة بمصلحته بوصفه صاحب معامل. وما أن عينه تيير في بوردو وزيرا للمالية حتى شرع يندد بهذه المعاهدة ((المشؤومة)) و أشار تلميحا إلى قرب فسخها، وقد بلغت به الوقاحة حدا جعله يحاول، ولو على غير طائل (لأنه لم يطلب الإذن من بيسمارك) أن يطبق من جديد رسوم الحماية الجمركية القديمة ضد الألزاس حيث لم تكن تقف حينئذ في طريقها، كما قال، أية معاهدات دولية سابقة. هذا الرجل كان يرى في الثورة المعاكسة وسيلة لتخفيض الأجور في روان وكان يعتبر التخلي عن الإقليمين الفرنسيين وسيلة لرفع أسعار سلعه في فرنسا. ألم يكن مقدرا لهذا الرجل أن يختاره تيير معاونا لجول فافر قصد اقتراف الخيانة الأخيرة التي توجت نشاطه كله؟
لدى وصول هذا الزوج اللطيف من المفوضين إلى فرانكفورت، أصدر بيسمارك كعادته، بلهجة الجندي، أمره التالي: ((إما إعادة الامبراطورية و إما قبول شروط الصلح التي أمليها بلا قيد أو شرط!)) و انحصرت شروطه في تقصير مواعيد دفع الغرامة الحربية وفي احتلال حصون باريس من قبل البروسيين إلى أن يظهر لدى بيسمارك أساس لأن يكون راضيا عن أوضاع الأمور في فرنسا. وبهذا اعترف لبروسيا أنها الحكم الأعلى في شؤون فرنسا الداخلية. ومقابل ذاك، عبر بيسمارك عن استعداده التام لأن يفرج سبيل الجيش البونابرتي من الأسر قصد سحق باريس، ولأن يعززه، عند الحاجة، بجنود الامبراطور غليوم. وعربونا على الوفاء بوعده، أجل دفع القسط الأول من الغرامة حتى ((تهدئة)) باريس. و طبعا، ابتلع تيير و مفوضاه طعما كهذا الطعم بلهفة. ففي 10 أيار (مايو)، وقعوا المعاهدة وفي 18 منه أقرتها الجمعية الوطنية بفضل الجهود التي بذلوها.
وفي الفترة الواقعة فيما بين عقد الصلح ورجوع الجنود البونابرتيين من الأسر، رأى تيير من الضروري ن أكثر من ذي قبل، الاستمرار في عرض مهزلته، مهزلة المصالحة. وقد ازداد ذلك ضرورة لأن أذنابه الجمهوريين كانوا في أمس الحاجة إلى ذريعة مناسبة ليغضوا الطرف عن تحضير مجزرة دموية في باريس. وفي 8 أيار (مايو) كان قد أجاب على وفد من الطبقة الوسطى جاء يطلب منه أن يصالح بقوله: ((حالما يوافق الثوار على الاستسلام ستفتح أبواب باريس لمدة أسبوع أمام الجميع فيما عدا قتلة الجنرال ليكونت و الجنرال كليمان توما)).
وعندما قام (النواب الملاكون العقاريون)) بعد عدة أيام باستجواب تيير في شأن هذا الموعد، وارب، ولكنه لمح تلميحا
ذا مغزى: ((إنني أقول لكم أن بينكم رجالا عديمي الصبر، رجالا في عجلة من الأمر أكثر مما ينبغي. ليصبروا أسبوعا
آخر؛ ولدى انتهاء الأسبوع، لن يكون ثمة خطر، وستكون المهمة متناسبة تماما مع عزيمتهم ومع طاقاتهم)). وحالما
استطاع مكماهون أن يؤكد له أنه يدخل باريس بعد وقت قصير، صرح تيير للجمعية الوطنية بأنه ((سيدخل باريس و القانون
في يده ويرغم الأنذال الذين أراقوا دماء الجنود ودمروا النصب التذكارية العامة على أن يدفعوا ثمن جرائمهم)).
ولما دنت اللحظة الحاسمة صرح للجمعية الوطنية بأنه ((سيكون عديم الشفقة))؛ و صرح لباريس أن الحكم عليها قد صدر و
صرح لأشقيائه البونابرتيين بأن الحكومة تسمح لهم أن ينتقموا من باريس على قدر ما يطيب لهم. و أخيرا، عندما فتحت
الخيانة أبواب باريس أما الجنرال دويه في 21 أيار (مايو)، كشف تيير في 22 أيار (مايو) ((لنوابه الملاكين
العقاريين)) عن ((الغاية)) من مهزلة المصالحة التي مثلها و التي أمعنوا هم بعناد في عدم فهمها: ((قلت لكم منذ
بضعة أيام أننا نقترب من غايتنا؛ و اليوم جئت أقول لكم أننا أدركنا الغاية. إن انتصار النظام و العدالة و
المدنية قد تحقق أخيرا!))
نعم، كان هذا انتصارا. إن مدنية النظام البرجوازي و عدالته تطلعان بضوئهما الحقيقي
المشؤوم كلما هب العبيد و المظلومون ضد السادة. وعندئذ تكون هذه المدنية وهذه العدالة بربرية غير مقنعة و
انتقاما لا يعرف القانون. وكل أزمة جديدة في النضال الطبقي بين منتجي الثروة و متملكيها تزيد هذه الحقيقة سطوعا.
حتى الفظائع التي ارتكبتها البرجوازية في حزيران (يونيو) سنة 1848 خبت إزاء قبائح سنة1871 التي يعجز عنها الوصف.
أن البطولة المتفانية التي قاتل بها شعب باريس كله – رجالا و نساء و أطفالا – لمدة أسبوع كامل بعد
دخول جنود فرساي إلى المدينة لتعكس جلال قضيته بنفس السطوع الذي تعكس به فظائع الجنود الوحشية كل الروح التي
جبلت عليها تلك المدنية التي كان هؤلاء المدافعين المأجورين عنها و المنتقمين لأجلها. و إنها لجليلة حقا هذه
المدنية التي واجهت مشكلة صعبة هي مشكلة التخلص من أكوام جثث الذين قتلتهم بعد انتهاء المعركة!
ولو أردنا أن نجد سلوكا يوازي سلوك تيير و كلابه الدموية، لترتب علينا أن نعود إلى عهود سوللا و الثالوثين اللذين حكما روما.عين الذي حدث من ذبح الناس بالجملة بثبات جأش؛ عين لا مبالاة الجلادين لسن وجنس الضحايا؛ عين النظام في تعذيب الأسرى؛ عين الملاحقات ولكنها هذه المرة موجه ضد طبقة بأسرها؛ عين المطاردة الوحشية للقادة المختبئين لئلا يفلت منهم واحد؛ عين الوشايات بالخصوم السياسيين و الشخصيين؛ عين اللامبالاة في ذبح أناس غرباء تماما عن النزاع. ولكن هنالك فرقا واحدا هو أن الرومان لم تكن لديهم المدافع الرشاشة يقتلون بها الأسرى أفواجا أفواجا، ولم يكن ((القانون في أيديهم)9 ولم تكن على شفاههم كلمة ((المدنية)).
وبعد جميع هذه الفظائع، أنظروا الآن إلى الوجه الآخر لتلك المدنية البرجوازية، إلى الوجه الأشد شناعة، كما تصفه صحافتها ذاتها!
كتب مراسل إحدى الصحف اللندنية التابعة لحزب المحافظين من باريس يقول: ((الطلقات ما تزال تلعلع عن بعد؛ و الجرحى الذين لا يعتنى بهم أحد يحتضرون وسط تماثيل مقبرة بير لاشيز؛ ستة آلاف من الثوار في نضالهم اليائس الأخير يهيمون على وجوههم تائهين في متاهات الدياميس؛ الشوارع يسوقون مجموعات التعساء كي يقتلوهم برصاصات المدافع الرشاشة. ومن المثير أن يرى المرء في مثل هذه اللحظة المقاهي مترعة بمدمني الأبسنت و البلياردو و الدومنو، و النساء الفاسقات يخطرن في البولفارات بوقاحة بينما الأصوات المعربدة العالية الداوية في المقاصير الخصوصية في المطاعم الأنيقة تفض سكون الليل)). ويكتب المسيو إدوار هرفي في صحيفة ((جورنال دي باري)) journal de paris)) وهي صحيفة فرسايلية ألغتها الكومونة: ((إن الطريقة التي أظهر بها سكان باريس (!) ارتياحهم أمس كانت أكثر من طائشة حقا و نحن نخشى أن تزداد سوءا مع مضي الوقت. إن باريس تظهر بمظهر يوم العيد وهو شيء في غير محله؛ و إذا أردنا ألا نسمى بباريسيي ((زمان الانحطاط))، فمن الواجب أن يوضع حد لهذا)). ثم يورد مقطعا من تاقيطس: ((وغداة ذلك الصراع الرهيب، وحتى قبل أن ينقضي تماما، استغرقت روما، مرة أخرى، ساقطة فاسدة في حمأة الفسق التي تهرم جسدها وتدنس روحها – alibi proelia et vulnera , alibi balnea popinaeque >>*.إلا أن المسيو هرفي ينسى فقط أن ((سكان باريس)) الذين يتحدث عنهم ما هم إلا سكان باريس تيير، باريس المستسلمين الذين عادوا زرافات من فرساي و سان – ديني و رويي و سان – جرمان؛ إنها باريس ((زمان الانحطاط)) حقا.
إن تلك المدنية المجرمة التي تستند إلى استعباد العمل تعتمد عند كانتصار دموي إلى إغراق صيحات ضحاياها، الأبطال
الذين يضحون بأرواحهم في سبيل مجتمع جديد أفضل، بزعيق من الملاحقات و الافتراءات يتردد صداها في جميع أنحاء
الدنيا. إن باريس العمال الهادئة، باريس الكومونة تتحول فجأة إلى جهنم على أيدي كلاب حراسة ((النظام))، المتعطشة
إلى الدماء. وماذا يثبت هذا التحول الهائل لعقل البرجوازية في جميع الأقطار؟ إنه يثبت فقط أن الكومونة قد دبرت
المؤامرة ضد المدنية! إن شعب باريس يضحي بنفسه بكل حماسة من أجل الكومونة: لم يقتل مثل هذا العدد من الناس في
أية معركة حدثت قبل ذلك. ماذا يعني ذلك؟ يعني فقط أن الكومونة لم تكن حكومة الشعب بل هي اغتصاب الحكم من طرف
حفنة من المجرمين! ونساء باريس يمتن، قريرات العيون، عند المتاريس وفي مكان الإعدام. ماذا يعني هذا؟ يعني فقط أن
روح الكومونة الشريرة قد جعلت منهن ميجيرات وهكاتات! * الاعتدال الذي أبدته الكومونة في أثناء حكمها الذي لم يكن
ينازعها فيه منازع طيلة شهرين لا يعادله إلا البطولة التي أبدتها في الدفاع. ماذا يعني ذلك؟ يعني فقط أن
الكومونة قد أخفت تحت قناع من الاعتدال و الإنسانية تعطش غرائزها الجهنمية إلى الدهاء لكي تطلقها في أثناء غمرات
الموت!
إن باريس العمال قد أضرمت النار، خلال التضحية بنفسها على نحو بطولي، في بنايات و نصب تذكارية. وعندما
يمزق ظالمو البروليتاريا جسدها الحي إربا إربا، لا يجوز أن يتوقعوا بعد ذلك أن يعودوا ظافرين إلى مساكنهم
السليمة. إن حكومة فرساي تصرخ: ((حرق متعمد!)) وتهمس في آذان أذيالها حتى في أقصى قرية،الشعار التالي: ((طاردوا
أعدائي جميعهم بوصفهم مجرد حارقين متعمدين)). إن برجوازية العالم كله التي تنظر بعين الرضى إلى تقتيل الناس بعد
المعركة، تستاء من ((تدنيس)) الآجر و الملاط!
عندما تعطي الحكومات تصاريح رسمية إلى أساطيلها بأن ((تقتل و تحرق وتدمر)) فهل ذلك تصريح بالحرق المعتمد؟ وعندما أشعل الجنود الانكليز النيران استهتارا بدار مجلس النواب في واشنطن و بالقصر الصيفي لإمبراطور الصين – فهل كان ذلك حرقا متعمدا؟ وعندما كان البروسيون يعمدون، لا لمقتضيات عسكرية بل لمجرد إغواء غليلهم بالانتقام، إلى إحراق مدن مثل شاتودن و عدد لا يحصى من القرى مستعينين بالكاز _ فهل كان ذلك حرقا متعمدا؟ وعندما أقدم تيير على قصف باريس بالمدفعية طوال ستة أسابيع بحجة أنه كان يريد إشعال النيران في البيوت المأهولة فحسب، فهل كان ذلك حرقا متعمدا؟ – إن النار هي سلاح شرعي في الحروب كأي سلاح آخر. المباني الواقعة في قبضة العدو تقذف بالقنابل لإشعال النار فيها. و إذا اضطر الذين يدافعون عنها إلى الانسحاب، فهم يتولون بأنفسهم إشعال النار فيها ليمنعوا المهاجمين من الاستحكام فيها. ولقد كان الحرق هو المصير المحتوم لجميع المباني التي كانت تقع في طريق أي جيش نظامي. و لكن في حرب العبيد ضد ظالميهم وهي الحرب المشروعة الوحيدة في التاريخ، يحسبون هذا العمل، كما ترون، جريمة! إن الكومونة كانت تستخدم النار كوسيلة دفاعية بكل معنى هذه الكلمة، فقد استخدمتها لكي تمنع جنود فرساي من دخول تلك الشوارع الطويلة المستقيمة التي صممها هاوسمان خصيصا لإطلاق نيران المدفعية عليها، استخدمتها لتغطي انسحابها بالطريقة ذاتها التي كان يستخدم فيها جنود فرساي، أثناء هجومهم، قذائفهم التي دمرت من المباني ما لا يقل عن المباني التي دمرتها نار الكومونة. إنه لموضع خلاف، حتى في الوقت الحاضر، أي مبان أحرقها المهاجمون و أيها أحرقها المدافعون. ثم أن المدافعين لم يلجأوا إلى النار إلا في ذلك الوقت الذي كان جنود فرساي قد باشروا فيه قتل الأسرى بصورة جماعية. أضف إلى هذا إن الكومونة كانت قد أعلنت مسبقا وعلى المكشوف، أنها لو دفعتها إلى ذلك الضرورة القصوى، ستدفن نفسها تحت أنقاض باريس و ستجعل من باريس موسكو ثانية؛ ففي الماضي أعطت مثل هذا الوعد حكومة الدفاع الوطني ولكن كمجرد قناع تستر به خيانتها. لهذا الغرض أوجد تروشو احتياطا من الكاز. لقد كانت الكومونة تعرف أن أعدائها لا يأبهون مطلقا لأرواح سكان باريس و لكنهم يحرصون حرصا شديدا على بيوتهم. و أعلن تيير من جهته أنه لن تأخذه في انتقامه رحمة. وما أن أصبح جيشه جاهزا للقتال، من جهة، وما أن أوصد البروسيون جميع المخارج، من جهة أخرى، حتى صاح: ((سأكون عديم الشفقة! يجب أن يكون التكفير تاما و العدالة صارمة!)) و إذا كانت أعمال عمال باريس همجية فقد كانت همجية الدفاع عن يأس، لا همجية المنتصرين الظافرين، كتلك التي اقترفها المسيحيون إذ خربوا الآثار الفنية التي لا تقدر بثمن حقا، مما خلفه العالم الوثني القديم؛ وحتى تلك الهمجية بررها المؤرخون على اعتبار أنها أمر لا مناص منه، أمر تافه نسبيا، رافق ذلك الصراع الجبار بين مجتمع جديد ينهض ومجتمع قديم ينهار. وكان عمل الكومونة أهون بما لا يقاس من وحشية هاوسمان الذي هدم باريس التاريخية ليخلي مكانا لباريس النصابين!
أما إعدام الكومونة لأربع و ستين من الرهائن وعلى رأسهم رئيس أساقفة باريس! إن البرجوازية و جيشها قد جددا في حزيران (يونيو) 1848 عادة من عادات الحروب التي زالت منذ زمن بعيد وهي قتل الأسرى العزل بالرصاص. ومنذ ذلك الحين طبقت هذه العادة الوحشية إلى حد معلوم في جميع أعمال التنكيل بالانتفاضات الشعبية في أوروبا و الهند مما يدل بجلاء ووضوح على أنها ((تقدم المدنية)) الحقيقي! ومن ناحية أخرى أعاد البروسيون في فرنسا العمل بعادة أخذ الرهائن – رجال أبرياء كان عليهم أن يتحملوا مسؤولية أعمال قام بها أناس آخرون. وعندما عمد تيير منذ بداية النزاع، كما رأينا، إلى تطبيق العادة الإنسانية القائلة بقتل الأسرى الكومونيين رميا بالرصاص، اضطرت الكومونة، حماية لأرواح هؤلاء الأسرى، أن تلجأ إلى العادة البروسية في أخذ الرهائن، وبما أن الفرسايليون كانوا، مع ذلك، يواصلون قتل الأسرى رميا بالرصاص، فقد عرضوا بأنفسهم رهائنهم للإعدام. وكيف يمكن الإبقاء على حياتهم أمدا أطول بعد حمام دم احتفل به بريتوريو * ماكماهون بدخولهم إلى باريس؟ وهل كان على الحماية الأخيرة، أي أخذ الرهائن، لردع وحشية الحكومة البرجوازية التي لا تتورع عن ارتكاب أي فعل، أن تبقى مجرد نكتة؟ إن القاتل الحقيقي لرئيس الأساقفة داربوا هو تيير. فالكومونة قد عرضت عدة مرات مبادلة رئيس الأساقفة، ومعه عدد كبير من القساوسة الآخرين، ببلانكي وحده لا غير، وقد كان آنذاك في قبضة تيير. ولكن تيير رفض هذه المبادلة بعناد. كان يدرك أنه سيعطي الكومونة رأسا، إذا أطلق سراح بلانكي، بينما كان رئيس الأساقفة يخدم أغراضه على أفضل وجه وهو في صورة جثة. في هذه الحالة كان تيير يقلد كافينياك.فبأي صيحات من استياءاتهم كافينياك و ((رجال النظام)) من أتباعه، في حزيران (يونيو) 1848، الثوار بأنهم قتلة رئيس الأساقفة آفر! واقع الأمر أنهم كانوا يدركون تمام الإدراك أن رئيس الأساقفة قد قتله جنود حزب النظام. فإن جاكمه، الوكيل العام لرئيس الأساقفة الذي كان حاضرا في مكان الحادث، كان قد أكد هذا أمام الملأ بعد الحادث مباشرة.
وواقع أن حزب النظام كان ينشر بعد جميع ولائمه الدموية التهتكية هذا القدر من الافتراء عن ضحاياه، لا يدل إلا على أن برجوازيي أيامنا يعتبرون أنفسهم الورثة الشرعيين للإقطاعيين السابقين الذين اعترفوا لأنفسهم بحق استعمال أي سلاح كان ضد العامة بينما كان أي سلاح من أي نوع في يد أحد العامة يشكل في حد ذاته جريمة.
أن مؤامرة الطبقة الحاكمة لقمع الثورة عن طريق حرب أهلية، تحت رعاية الغازي الأجنبي، وهي مؤامرة تتبعناها منذ 4 أيلول (سبتمبر) وحتى دخول بريتوريي ماكماهون بوابة سان – كلو – إن هذه المؤامرة قد انتهت بمجزرة دموية في باريس. إن بيسمارك يتأمل معجبا بنفسه أطلال باريس التي ربما رأى فيها الخطوة الأولى من ذلك الدمار الشامل للمدن الكبرى، الذي كان يحلم به وهو ما يزال بع ملاكا عقاريا بسيطا – نائبا في ((المجلس الذي لا مثيل له)) البروسي لسنة 1849. إنه يتأمل برضى النفس جثث بروليتاريي باريس. وليس الأمر بالنسبة له مجرد استئصال للثورة بل سحق فرنسا التي تم الآن قطع رأسها فعلا، و بيد الحكومة الفرنسية ذاتها. وهو، بتلك السطحية التي يتميز بها جميع رجال الدولة الموفقين، لا يرى إلا ظاهرة من هذا الحدث التاريخي العظيم. ومتى أرانا التاريخ من قبل فاتحا عزم على أن يتوج نصره بدور دركي وقاتل مأجور في يد الحكومة المغلوب على أمرها؟ لم تكن هنالك أية حرب بين بروسيا و الكومونة. بل بالعكس، فإن الكومونة قد قبلت بالشروط التمهيدية للصلح و أعلنت بروسيا التزامها الحياد. ولذلك لم تكن بروسيا طرفا في القتال. لقد قامت بدور القاتل المأجور السافل لأنها باشرت أمرا لا يهددها بأي خطر، لقد قامت بدور قاتل مأجور لأنها اشترطت مقدما دفع ثمن القتل الدموي و قدره 500 مليون، بسقوط باريس. وهنا بالضبط ظهر أخيرا الطابع الحقيقي للحرب التي قدرتها العناية الإلهية قصاصا لفرنسا الكافرة الفاجرة بيد ألمانيا التقية القويمة الأخلاق! وهذا الخرق الذي لا نظير له للحقوق الدولية، حتى من وجهة نظر حقوقيي العالم القديم، بدلا من أن يرغم الحكومات ((المتمدنية)) في أوروبا على أن تعلن حكومة بروسيا المجرمة، وهي مجرد أداة في يد وزارة بطرسبورغ، خارج القانون، هذا الخرق أتاح لها فقط حجة للبحث فيما إذا كان من الأجدر تسليم ضحايا الحرب القلائل الذين تسنى لهم أن يفلتوا من الطوق المزدوج المضروب حول باريس إلى جلاد فرساي!
وبعد أفظع حرب من حروب الأزمنة الحديثة، اجتمع الجيش الغالب و الجيش المغلوب من أجل الاشتراك في ذبح البروليتاريا. إن هذا الحدث الخارق لا يبرهن، كما ظن بيسمارك، على أن المجتمع الجديد الذي يشق طريقه قد غلب على أمره نهائيا – كلا، إنه يبرهن على التفسخ التام في المجتمع البرجوازي القديم. و أعلى وثبة بطولية كان المجتمع القديم ما يزال قادرا على القيام بها هي الحرب القومية، وقد ثبت الآن أن هذه ليست تدليس صرف من الحكومة؛ أما القصد الوحيد من هذا التدليس فهو إرجاء النضال الطبقي، وحين يشب النضال الطبقي و يتحول إلى حرب أهلية، يتناثر التدليس هباء. إن السيطرة الطبقية لم تعد قادرة على التنكر في ثوب قومي؛ إن الحكومات القومية ضد البروليتاريا هي يد واحدة.
بعد عيد العنصرة من عام 1871 لم يعد هنالك مكان لا لصلح ولا لهدنة بين العمال الفرنسيين و متملكي نتاج عملهم. إن اليد الحديدية للجنود المرتزقة قد تستطيع أن تسحق هاتين الطبقتين؛ بعض الوقت، بيد أن المعركة بينهم تنشب مرة أخرى و لابد أن تحتدم بشدة متزايدة؛ ولا يمكن أن يكون هنالك من شك فيمن سيكون المنتصر في آخر الأمر – الأقلية المتملكة أم الأكثرية الساحقة من الشغيلة. وما العمال الفرنسيين إلا طليعة البروليتاريا الحديثة قاطبة.
لقد أظهرت الحكومات الأوروبية أمام باريس طابع السيطرة الطبقية العالمي، وهي نفسها ترفع عقيرتها في العالم كله صارخة إن السبب الرئيسي لجميع المصائب هو جمعية الشغيلة الأممية، أي منظمة العمل الأممية التي تقف في وجه مؤامرة الرأسمال العالمية. إن تيير يتهم هذه المنظمة بأنها طاغية العمل و بأنها تدعي أنها محررته. ومنع بيكار كل الاتصالات بين أعضاء الأممية الفرنسيين و أعضاءها في الخارج؛ و أعلن الكونت جوبير، هو الشريك المتحنط لتيير في حوادث سنة 1835 إن اجتثاث الأممية من جذورها يجب أن يكون الواجب الرئيسي أمام كل حكومة. إن ((النواب الملاكين العقاريين)) يزمجرون ضدها و الصحافة الأوروبية تؤيدهم جامعة أصواتها في جوقة واحدة. يقول عن جمعيتنا كاتب فرنسي شريف، وهو لا يمت إليها بصلة، ما يلي: ((إن أعضاء اللجنة المركزية للحرس الوطني و كذلك الشطر الأعظم من أعضاء الكومونة هم أكثر العقول نشاطا وذكاء و همة في جمعية الشغيلة الأممية. ولا ريب أنهم أناس أمناء، مخلصون، أذكياء، متفانون منتهى التفاني، أنقياء و متعصبون في أحسن معاني هذه الكلمة)). طبيعي أن العقل البرجوازي المشرب بالبوليسية يصور لنفسه مجموعة الشغيلة الأممية بأنها جمعية متآمرة سرية، تصدر هيئة إدارتها المركزية الأوامر من وقت لآخر بالقيام بانتفاضات في الأقطار المختلفة. أما في الواقع فإن جمعيتنا ليست إلا اتحادا عالميا يوحد العمال الطليعيين من مختلف أقطار العالم المتحضر. ومن الطبيعي أن يقف أعضاء جمعيتنا في المقدمة حيثما ينشب النضال الطبقي و أيا كان الشكل الذي يرتديه و أيا كانت الظروف التي يصبح فيها ملموسا. إن التربة التي تنمو عليها هذه الجمعية هي المجتمع الحديث بالذات. ولا يمكن استئصال هذه الجمعية مهما أريق من الدماء. ولاستئصالها ينبغي على الحكومات أن تستأصل قبل كل شيء طغيان الرأسمال على العمل، أي أن تستأصل أساس وجودها الطفيلي بالذات.
إن باريس العمال، و كومونتها، ستظلان إلى الأبد موضع التبجيل، بوصفهما البشير المجيد بمجتمع جديد. و شهداؤها مثواهم الأبدي قلب الطبقة العاملة الكبير. و جلادوها سمرهم التاريخ الآن على خشبة العار التي لن تجدي في تخليصهم منها جميع الصلوات التي يرددها كهنتهم.
لندن، 30 أيار (مايو) سنة 1871
(8).((Journal Officiel de la RepubliqueFrancaise))(“الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية “) – لسان حكومة كومونة باريس، صدرت في باريس من 19 آذار (مارس) إلى 24 أيار (مايو) عام 1871.
(9). في نيسان (إبريل) عام 1849 أرسل الجنود الفرنسيون إلى ايطاليا لقمع الثورة الإيطالية. فأقدموا على قصف روما بالمدافع، مما كان يتناقض تناقضا صارخا مع الدستور الفرنسي الذي نص على أن الجمهورية لا تستخدم قوتها أبدا لقمع حرية أي شعب من الشعوب.
(10). المقصود هنا الليجيميتيون وهم أنصار الفرع الأول (أو البكر 9 من سلالة بوربون ((الليجيتيمية)) (” الشرعية “) التي حكمت فرنسا حتى عام 1792 و أيضا في عهد عودت الملكية (1814 – 1830)، و الاورليانيون، وهم أنصار الفرع الاورلياني أو الثاني من سلالة بوربون وقد جاء إلى الحكم منذ ثورة تموز (يوليو) عام 1830 حتى أسقطته ثورة عام 1848.
(11).((LeNational)) (” الناسيونال ” ” الجريدة القومية “) – صحيفة يومية فرنسية، صدرت في باريس من عام 1830 إلى عام 1851؛ لسان حال الجمهوريين البرجوازيين المعتدلين.
(12).((Kladderadatsch)) (” كلادراداتش “) – مجلة ألمانية ساخرة صدرت في برلين منذ عام 1848؛ ((Punch)) (” بانتش “) – اسم مختصر لمجلة انكليزية ساخرة أسبوعية ذات اتجاه برجوازي ليبرالي و اسمها الكامل ((Punch ‘ Or The London Charivari)) (” القرة قوز أو الشاريفاري اللندني “)؛ تصدر في لندن منذ عام 1841.
(13).حزب النظام – تحالف الكتلتين الملكيتين في فرنسا وهما الليجيتيميون (أنصار الفرع الأول من سلالة بوربون) و الاورليانيون (أنصار الفرع الاورلياني أو الثاني من سلالة بوربون). نشأ هذا الحزب في عام 1848 حزبا للبرجوازية الكبيرة المحافظة و احتل مركزا قياديا في الجمعية التشريعية للجمهورية الثانية، منذ عام 1849 حتى انقلاب 2 كانون الأول (ديسمبر 9 عام 1851. وقد استغلت زمرة لويس بونابرت إفلاس سياسته المعادية للشعب في أغراضها البونابرتية.